وانقطع مددها من تلك الجهة من الأنوار الجبروتية والقوى الملكوتية ، فضعفت في الإدراكات لاحتجابها عن قبول تلك الإشراقات. وفي المنّة والقوة الانقطاع مددها من تلك القوة. وكلما توجهت إلى الجهة العلوية بالتنزّه عن الهيئات البدنية ، والتجرّد عن الملابس المادية ، والتقرّب إلى الله تعالى ، مبدأ المبادئ ، ونور الأنوار بالزهد والعبادة.
والتشبث في المبادئ بالنظافة والنزاهة مقرونا عمله بالصدق في النية وإخلاص الطويّة أمدّه الله تعالى لمناسبته سكان حضرته من عالمهم إمداد النور والقوة ، فتعلم ما لا يعلمه غيرها من أبناء جنسها وتقدر على ما لا يقدر عليه مثلها من بني نوعها ، ويكون لها أوقات تنخرط فيها في سلكها بالانخلاع عن بدنها وأوقات تبعد فيها عنها بما هي ممنوّة به من تدبير جسدها. ففي أوقات اتصالها بها وانخراطها في سلكها قد تتلقى الغيب منها ، إما كما هو على سبيل الوحي والإلهام والإلقاء في الروع والإعلام بمطالعة صورة الغيب المنتقشة هي بها منها ، وإما على طريق الهتاف والإنهاء ، وإما على صورة كتابة في صحيفة تطالعه منها وذلك بحسب جهة قبول لوح حسها المشترك واختصاصه بنوع بعض المحسوسات دون بعض للأحوال السابقة والاتفاقات العارضة. وقد يتراءى لها صور منها تناسبها في الحسن واللطافة فيتجسد لها إما بقوة تخيلها وظهورها في حسها المشترك لاستحكام الاتصال واستقراره ريثما تحاكيها المتخيلة ، وإما بتمثلها في متخيلة الكل التي هي السماء الدنيا وانطباعها في متخيلتها بالانعكاس كما فيما بين المرايا المتقابلة فتخاطبها بصورة الغيب شفاها على ما يرى في المنامات الصادقة من غير فرق ، فإن الرؤيا الصادقة والوحي كلاهما من واد واحد لا تباين بينهما إلا بالنوم واليقظة ، فإن صاحب الوحي يقدر على الغيبة من الحواس وإدراكاتها وعزلها عن أفعالها وتعطيلها في استعمالها فيتصل بالمجرّدات العلوية لقوة نفسه وحصول ملكة الاتصال لها ، وصاحب الرؤيا الصادقة يقع له ذلك بحكم الطبع وتلك الرؤيا هي التي لا تحتاج إلى تعبير كما أشار إليه من رؤيا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في القرآن بقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١) ولهذا جعل الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة ، وكانت مقدمة وحيه المنامات الصادقة ستة أشهر ثم استحكمت وصارت إلى اليقظة. وقد تنتقل المتخيلة في الحالتين ، أي : النوم واليقظة ، إلى اللوازم ، فيقع الاحتياج إلى التعبير والتأويل وقد يظهر على تلك النفس المتدربة بملكة الاتصال المتمرّنة فيها من خوارق العادات وأنواع الكرامات والمعجزات لوصول المدد من عالم القدرة ما ينكره من لا يعلمه من المحجوبين بالعادة
__________________
(١) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.