تبيينه لهما ما يؤول إليه أمرهما من شأنهما الذي يجب لهما القيام به بالسياسة والتسديد والتقويم والإصلاح وإظهار التوحيد لهما بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ) إلى آخره ، بعثه إياهما على القيام بالأمر الإلهيّ الضروري وترك الفضول والامتناع عن تفرّق الوجهة وتشتت الهمّ ، فإنّ خاصية الهوى التفرقة والتوزع وتعبد الشهوات المختلفة للقوى المتنازعة ، وخاصية المحبة في البداية وقبل الوصول إلى النهاية التعلق بحسن الصفات والتعبد لها دون جمال الذات ، فدعاهما إلى التوحيد بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : المشركين ، العابدين لأوثان صفات النفس بل لوجود القلب وصفاته (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : وهم عن البقاء في العالم الروحاني محجوبون ، وبقوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ).
وبقوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي : إذا كان لكل منكما أرباب كثيرة كما قال تعالى : (فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) (١) يأمره هذا بأمر وهذا بأمر متمانعون في ذلك ، عاجزون إمّا للمحبة فكالصفات والأسماء ، وإما للهوى فكالقوى النفسانية كان خيرا له أم ربّ واحد لا يأمره إلا بأمر واحد ، كما قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (٢) ، قهار ، قويّ ، يقهر كل أحد ، لا يمانعه في أمره شيء ، ولا يمتنع عليه. وأجبرهما بالسياسة على اتحاد الوجهة ، فإنّ القلب إذا غلبت عليه الوحدة امتنعت محبته عن حب الصفات وانصرفت إلى الذات ، وإذا تمرّن في التوحيد انقمع هواه عن تعبد الحظوظ والشهوات والتفرّق في تحصيل اللذات واقتصر على الحقوق والضرورات بأمر الحق لا بطاعة الشيطان.
وقوله : (أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) تعيين لشأن الأول بعد السياسة بالمنع عن الشرك وهو تسليط حب اللذات على الروح (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) بيان لما يؤول إليه أمر الثاني. وصلبه : منعه عن أفعاله بنفسه وقمعه عن مقتضاه وتثبيته وتقريره على جذع القوة الطبيعية النباتية بحيث لا تصرّف للمتخيلة فيه ولا له فيها ولا في سائر القوى الحيوانية وذلك هو إماتة الهوى ، فتأكل بعد الإماتة والصلب طير قوى النفس من رأسه بأمر الحق وهو الوقوف مع الحقوق (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي : ثبت واستقرّ أمركما على هذا وذلك وقت وصوله وتقرّبه من الله وأوان ظهور مقام الولاية بالفناء في الله. وإذا تمكنت القوّتان فيما عينه لهما من الأمر تم أمره بالوصول إلى مقام الشهود الذاتي وانقضت خلوته ، فإنّ طول مدة السجن هو امتداد سلوكه في الله ، فإذا تمّ له الفناء استوى أمر القوتين لكونهما بالله حينئذ لا بنفسهما وانتهى زمان الخلوة بابتداء زمان البقاء بالوجود الحقانيّ ، ولكن
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية : ٢٩.
(٢) سورة القمر ، الآية : ٥٠.