تعالى بذاته ، وأما الأبرار والسعداء فقسمان : فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرّد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفّاهم ملك الموت ، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهّاد والمتشرّعين الذين لم يتجرّدوا عن علائق البدن بالتزكية والتحلية تتوفاهم ملائكة الرحمة بالبشرى بالجنة ، أي : جنّة الأفعال والآثار. وأما الأشرار الأشقياء فكيفما كانوا تتوفاهم ملائكة العذاب ، إذ القوى الملكوتية المتصلة بالنفوس تتشكل بهيئات تلك النفوس ، فإذا كانت محجوبة ظالمة كانت هيئاتهم غاسقة ظلمانية هائلة ، فتتشكل القوى الملكوتية القابضة لنفوسهم بتلك الهيئات لمناسبتها ، ولهذا قيل : إنما يظهر ملك الموت على صورة أخلاق المحتضر ، فإذا كانت رديئة ، ظلمانية ، كانت صورته هائلة ، موحشة ، غلب على من يحضره الخوف والذعر ، وتذلّل وتمسكن ، ونزل عن استكباره ، وأظهر العجز والمسكنة ، وهذا معنى قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي : سالموا ، وهانوا ، ولانوا ، وتركوا العناد والتمرّد وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فأجيبوا بقولهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) الأفعال. وأما المتّقون عن المعاصي والمناهي ، الواقفون مع أحكام الشريعة ، المعترفون بالتوحيد والنبوّة على التقليد لا التحقيق ، وإلا لتجرّدوا بعلم اليقين عن صفات النفس إلى مقام القلب ، فتتوفاهم الملائكة طيبين على صورة أخلاقهم وأعمالهم الطيبة الجميلة ، فرحين مستبشرين (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي : الجنة المعهودة عندهم ، وهي جنة النفوس من جنات الأفعال (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
[٣٥ ـ ٣٩] (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩))
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) إنما قالوا ذلك عنادا وتعنتا عن فرط الجهل ، وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم ، إذ لو قالوا ذلك عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير ، لأن من علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله ، علم أنه لو شاء كل من في العالم شيئا لم يشأ الله ذلك لم يمكن وقوعه ، فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله تعالى فلم يبق مشركا ، قال الله تعالى : (وَلَوْ