كما قال تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) والفناء في الأفعال لا يمكن مع بقاء صفات النفس ، إذ بقاء صفاتها يستدعي أفعالها ، ولهذا قيل : لا يمكن إيفاء حق مقام وتصحيحه وأحكامه إلا بعد الترقي إلى ما فوقه ، فبالترقي إلى مقام الصفات يتم فناء الأفعال فيصح التوكل.
[١٠٠ ـ ١٠٥] (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))
(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) في مقام النفس بالمناسبة التي بينهما في الظلمة والكدورة ، إذ التولي مرتب على الجنسية (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) بنسبة القوة والتأثير إليه ، بل بطاعته وانقياد أوامره للتولي المذكور.
[١٠٦ ـ ١٠٧] (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧))
(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) لكون الظلمة له ذاتية بحسب استعداده الأول والنور عارضيا ، فهو في حجاب خلقي عن نور الإيمان إن اعتراه شعاع قدسيّ من نفس الرسول أو من فيض القدس أو أثر فيه وعدا ووعيدا ، أو كلمة حق في دعوته إلى الحق في حال إقبال من قلبه ودعاه داعية نفسانية من حصول نفع ودفع ضرّ ماليين أو جاه وعزّة بسبب الإسلام ، آمن ظاهرا ، ومقامه ومقرّه الكفر ، فقد استحق غضب الله لأنه محجوب بحسب الاستعداد عن أول مراتب الإيمان الذي هو شهود الأفعال بالاستدلال من الصنع على الصانع فعقابه من باب الأفعال والصفات لا الذي (أُكْرِهَ) على الكفر بالإنذار والتخويف (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ) ثابت متمكن مملوء (بِالْإِيمانِ) لنورية فطرته في الأصل وكون النور ذاتيا له بحسب الفطرة ، والكفر والاحتجاب إنما عرض بمقتضى النشأة. وقد زال الحجاب العارضي. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي : طاب به نفسا ورضي واطمأن لكونه مستقرّه ومأواه الأصلي (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) عظيم ، أي : غضب (مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لاحتجابهم عن جميع مراتب الأنوار من الأفعال والصفات والذات ، فما أغلظ حجابهم وما أعظم عذابهم.