ألا ترى أن الصبي والسفيه غير مكلفين؟ ، أو رسول الشرع لظهور ما في الاستعداد من الخير والشرّ والسعادة والشقاوة بسببه ومقابلته بالإقرار والإنكار ، فإن المستعد للكمال يتحرك ما فيه بالقوة عند سماع الدعوة فيشتاق ويطلب متلقيا لها بالإقرار والقبول لما يدعوه إليه لمناسبته إياه وقربه وغير المستعد ينكر ويعاند لمنافاته لما يدعوه إليه ويعده.
[١٦ ، ١٧] (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) إلخ ، إنّ لكل شيء من الدنيا زوالا وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال وحصول انحراف يبعده عن ظل الوحدة التي هي سبب بقاء كل شيء وثباته فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها عن الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام ، فإذا جاء وقت إهلاك قرية فلا بد من استحقاقها للإهلاك ، وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله فلما تعلقت إرادته بإهلاكها تقدّمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والنعم بطرا وأشرا بنعمة الله واستعمالا لها فيما لا ينبغي وذلك بأمر من الله وقدر منه لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم وحينئذ وجب إهلاكهم.
[١٨] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨))
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) أي : لا نزيده بإرادته زيادة على ما قدرنا له من النصيب في اللوح ولذلك قيده بالمشيئة ثم بقوله لمن نريد يعني : لو لم نقدر له شيئا مما أراده لم نعجل له تخليصه ، إنّا لا نعطي إلا ما أردنا من أردنا (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي : قعر بئر الطبيعة الظلمانية لانجذابه بإرادته إلى الجهة السفلية وميله إليها (يَصْلاها) بنيران الحرمان (مَذْمُوماً) عند أهل الدنيا والآخرة (مَدْحُوراً) من جناب الرحمة والرضوان في سخط الله وقهره.
[١٩ ، ٢٠] (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))
(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) لصفاء استعداده وسلامة فطرته وقام بشرائط إرادته من الإيمان والعمل الصالح شكر سعيه بحصول مراده كما قيل : من طلب وجدّ وجد ، لأن الطلب الحقيقي والإرادة الصادقة لا يكونان إلا عند حصول استعداد المطلوب ، وإذا قارن الاستعداد الدالّ على أن المطلوب حاصل له بالقوة ، مقدّر له في اللوح أسباب خروج المطلوب إلى