والرحمة خلق لا يتنافى مع التأديب اللازم والعقاب المناسب ، والله وهو خير الراحمين لم تتناف رحمته الشاملة الكاملة مع عقوباته التي حددها ، وزواجره التي توعد بها ، لأن تشريع الله الحكيم يمضي بين الترغيب والترهيب على صراط سواء.
وليست الرحمة خلق ضعف كما يزعم بعض الزاعمين ، لأن الرحمة الأصيلة هي التي تنبعث عن قدرة ذاتية تستطيع أن تكون حازمة وصارمة ، ولكنها تقدر الظروف ، وتشعر بالمشاركة الوجدانية ، فتتنازل عن بعض حقها عن طيب خاطر ، وتترفق بمن يستحق الترفق واللين ، فهي في الواقع قوتان لا قوة واحدة قوة الاقتدار ، ثم قوة التحكم في النفس لحملها على أن ترحم ، وقد كانت قادرة على أن تقسو وتعنف.
وللرحمة مواطن كثيرة ، فهناك موطن الرحمة بالأبوين ، والرحمة بالأولاد والزوجات ، والرحمة بالأقارب وذوي الأرحام ، والرحمة باليتامى والمساكين والضعفاء كالمرضى والمصابين وذوي العاهات ، ثم الرحمة بالحيوان ، وهكذا تتسع آفاق الرحمة حتى تشمل جوانب فسيحة من الحياة ، وعددا ضخما من الأحياء.
وقد حث القرآن الكريم على التحلي بفضيلة الرحمة مع أحق الناس بهذه الرحمة وهم الآباء والأمهات ، فقال القرآن في سورة الاسراء : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (١) (وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).
يذكر بعض المفسرين ـ وهو القرطبي ـ في قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أن هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما ، والتذلل لهما ، وضرب خفض الجناح ونصبه مثلا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده ،
__________________
(١) أف : كلمة تضجر.