وقد يعاون على هذا الفهم أن القرآن يقول في سورة الأعراف : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). وقد علق الامام ابن القيم على هذه الآية في «بدائع الفوائد» بقوله : «وقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) له دلالة بمنطوقه ، ودلالة بإيمائه وتعليله ، ودلالة بمفهومه ، فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الاحسان ، ودلالته بتعليله وإيمائه على أن هذا القرب مستحق بالاحسان ، فهو السبب في قرب الرحمة منهم ، ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين. فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة.
وإنما اختص أهل الاحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين ، وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الاحسان ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الاحسان ، فإنه لما بعد عن الاحسان بعدت عنه الرحمة ، بعدا ببعد ، وقربا بقرب ، فمن تقرب بالاحسان تقرب الله اليه برحمته ، ومن تباعد عن الاحسان تباعد الله عنه برحمته ، والله سبحانه يحب المحسنين ، ويبغض من ليس من المحسنين ، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ، ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه ، والاحسان ها هنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه».
* *
والرسول عليه الصلاة والسّلام هو المثل الأعلى والقدوة الحسنة لأهل القرآن ، وقد وصفه التنزيل المجيد في أكثر من آية بفضيلة الرحمة ، فقال في سورة آل عمران : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ). وقال في سورة التوبة : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). وقال في