وقد يجري في ضمن القضاء مرارات يجد بعض طعمها الراضي ، أما العارف فتقل عنده المرارات لقوة حلاوة المعرفة ، فلما ترقّى بالمعرفة إلى المحبة صارت مرارة الأقدار حلاوة.
وكذلك يكون الرضى ثمرة من ثمرات المحبة لله عزوجل ، ومن عرف الله أحبه ، ومحبة العبد لله حبا حقيقيا صادقا من أعلى مقامات المقرّبين اليه ، وحجة الاسلام الإمام الغزالي يفسّر ذلك بقوله : «الحب يورث الرضى بأفعال الحبيب ، ويكون ذلك من وجهين ، أحدهما أن يبطل الإحساس بالألم حتى يجري عليه المؤلم ولا يحس ، وتصيبه جراحة وهو لا يدرك ألمها ، ومثاله الرجل المحارب ، فإنه في حال غضبه ـ أو في حال خوفه ـ قد تصيبه جراحة وهو لا يحس بها ، حتى إذا رأى الدم استدل به على الجراحة.
بل الذي يغدو في شغل قريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحس بألم ذلك لشغل قلبه ، بل الذي يحتجم أو يحلق رأسه بحديدة كآلة يتألم ، فإن كان مشغول القلب بمهم من مهماته ، فرغ المزيّن والحجّام وهو لا يشعر ، وكلّ ذلك لأن القلب إذا صار مستغرقا بأمر من الأمور ، مستوفى به لم يدرك ما عداه ، فكذلك العاشق المستغرق الهمّ بمشاهدة معشوقه أو بحبه ، قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتم له لو لا عشقه ، ثم لا يدرك غمّه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه ، وشغل القلب بالحب والعشق من أعظم الشواغل.
وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حب خفيف تصوّر في الألم العظيم بالحب العظيم ، فإن الحب أيضا يتصور تضاعفه في القوة كما يتصور تضاعف الألم وكما يقوى حبّ الصور الجميلة المدركة بحاسة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة ، وجمال حضرة الربوبية وجلالها لا يقاس به جمال ولا جلال ، فمن ينكشف له شيء منه فقد يبهره بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه».