أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا ، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها ، وأن رب الآخرة والدنيا واحد ، وأن ليس للانسان الا ما سعى.
ويحك يا نفس!. ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة ، فانك تدعين الايمان بلسانك ، وأثر النفاق ظاهر عليك. ألم يقل لك سيدك ومولاك : «وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها» ، وقال في أمر الآخرة : «وأن ليس للانسان الا ما سعى». فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة ، وصرفك عن السعي فيها ، فكذبته بأفعالك ، وأصبحت تتكالبين (١) على طلبها تكالب المدهوش المستهتر (٢) ، ووكل أمر الآخرة الى سعيك ، فأعرضت عنها اعراض المغرور المستحقر. ما هذا من علاقات الايمان. لو كان الايمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟
ويحك يا نفس!. كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب ، وتظنين أنك اذا مت انفلت وتخلصت. وهيهات (٣). أتحسبين أنك تتركين سدى (٤)؟. ألم تكوني نطفة من مني يمنى (٥) ، ثم كنت علقة فخلق فسوى ، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟.
__________________
(١) تتكالبين : الكلب ـ بفتح الكاف واللام ـ : الحرص ، ورجل كلب ـ بفتح الكاف وكسر اللام ـ : شديد الحرص. فمعنى تتكالبين : تشتدين في الحرص على طلب الدنيا.
(٢) المستهتر : المولع بالشيء لا يبالي في سبيله بأي جهد. والمدهوش : الذي ذهب عقله من الوله.
(٣) هيهات : كلمة تستعمل للاخبار ببعد الشيء وتفسره ، وهي اسم فعل ، وفي القرآن الكريم : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).
(٤) سدى : مهمل ، يستوي فيه المفرد وغيره ، وفي القرآن : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي مهملا فلا يجازى.
(٥) يمنى : يقذف في الأرحام عند ثوران الشهوة.