نجوت منه رأسا برأس (١) لكان الربح في يدك. وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك ، وقد لعن الله ابليس بخطيئة واحدة ، بعد أن عبده مائتي الف سنة ، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة ، مع كونه نبيه وصفيه.
ويحك يا نفس ، ما أغدرك. ويحك يا نفس ، ما أوقحك ، ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي!. ويحك كم تقصدين فتنقضين (٢) ، ويحك ، كم تعهدين فتغدرين. ويحك يا نفس ، أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها ، أما تنظرين الى أهل القبور كيف كانوا : جمعوا كثيرا ، وبنوا مشيدا (٣) ، وأملوا بعيدا ، فأصبح جمعهم بورا ، وبنيانهم قبورا ، وأملهم غرورا.
ويحك يا نفس ، أمالك بهم عبرة؟ أمالك اليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا الى الآخرة وأنت من المخلدين؟. هيهات هيهات ، ساء ما تتوهمين. ما أنت الا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك ، فابني على وجه الأرض قصرك ، فان بطنها عن قليل يكون قبرك.
أما تخافين اذا بلغت النفس منك التراقي (٤) أن تبدو رسل ربك منحدرة اليك بسواد الألوان وكلح الوجوه ، وبشرى بالعذاب؟. فهل ينفعك حينئذ الندم ، أو يقبل منك الحزن ، أو يرحم منك البكاء؟.
والعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة
__________________
(١) أي لا عليك ولا لك.
(٢) أي تؤكدين العهد ثم تخونين فيه.
(٣) البناء المشيد : المطلي بالجص ، أو المرفوع المطول.
(٤) التراقي : جمع ترقوة ، وهي العظم المكتف ثغر النحر عن يمين وشمال. وفي القرآن : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي بلغت الروح أعالي الصدر وحشرجت.