وخفض الصوت مظهر لأدب النفس وعنوان على ثقة الانسان بما يقوله أو يذكره ، فهو مطمئن الى صدق كلامه ، ولذلك لا يحتاج الى استعانة برفع الصوت كأنه يصارع أو يشاجر ، وهذا الخفض يدل في الوقت نفسه على احترام المتكلم للسامع الذي يخاطبه ، ومن هنا كان خفض الصوت لائقا بمواقف العبادة كالصلاة ، حيث يقول القرآن في سورة الاسراء : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ، وَلا تُخافِتْ بِها ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).
وكذلك موقف الدعاء ، اذ ينبغي أن يكون الدعاء بين الجهر والمخافتة ، لان انخفاض الصوت بالدعاء يكون معوانا على الخشوع والصفاء ، ولذلك قال القرآن : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، وقال عن نبي الله زكريا : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) ، ولقد ذكر الامام ابن القيم أن خفض الصوت بالدعاء يكون أدل على الايمان ، اذ يفهم الداعي حينئذ ان الله سميع للدعاء مهما كان خفيا ، وكذلك يدل على الادب من العبد وحسن تعظيمه لله ، ويكون أبلغ في التضرع والرجاء والاخلاص ، ويكون معوانا على جمع القلب على الله تعالى في الدعاء ، لان رفع الصوت يؤدي الى التشتت والتفرق ، ويكون أيضا رمزا الى قرب صاحبه من ربه ، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره ، يسأله سؤال أقرب شيء اليه ، فيسأله مسألة القريب للقريب ، لا مسألة نداء البعيد للبعيد ، وكذلك يكون أدعى الى اتصال السؤال ودوام الطلب ، لان اللسان مع خفض الصوت لا يمل ، والجوارح لا تتعب ، بخلاف ما لو رفع صوته.
ولقد جاء في السنة أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه سمع أناسا يجهرون بالتكبير ، فقال لهم : «اربعوا على أنفسكم ـ أي ترفقوا بها ـ فانكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، انكم تدعون سميعا بصيرا ، والذي تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته».