وأصحاب الخلق الكريم والطبع السليم والشعور القويم هم الذين يحزنون حينما يحسون أنهم قد قصروا في شيء من حقوق الامانة ، ولو عن غير قصد ، وحينئذ تتمزق قلوبهم أسفا وحسرة على ما فرط منهم ، ومن أمثلة هؤلاء الصحابي الجليل ابو لبابة رضي الله عنه.
تحدثت عن شعوره بتبعة الامانة في كتابي «الفداء في الاسلام» فقلت :
«لقد حدث في اثناء غزوة الاحزاب ان غدر يهود بني قريظة بالرسول والمسلمين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي ، وانضموا الى المشركين في وقت شديد عصيب ، وشاءت عناية الله أن تحقق حملة الأحزاب ، وتوجه الرسول بعدها الى تأديب الغدرة الفجرة من بني قريظة ، وتمكن منهم بعد حصار طال وامتد ، وطلب هؤلاء من الرسول ان يبعث اليهم بالصحابي أبي لبابة ، وكان حليفا لهم في الجاهلية ، وكان له بينهم مال وعقار ، فحسبوا أنه سيكون سبب تخفيف عنهم ، ولما وصلهم أبو لبابة أخذوا يسألونه : أيسلمون وينزلون على حكم النبي؟. فقال لهم : نعم.
ثم بدرت منه بادرة غير مقصودة ، فأشار بيده الى حلقه اشارة يفهم منها أن مصيرهم هو القتل ، ولعله كان قد عرف ذلك من الرسول أو استنتجه ، وهو قصاص عادل من غير شك.
وما كاد أبو لبابة رضي الله عنه يأتي بهذه الاشارة حتى تنبه لنفسه في خوف وجزع ، وأحس وكأنه خان أمانة الله ورسوله ، في هذه الاشارة ، لأنه كشف شيئا كان يجب عليه ـ ولو في اعتقاده ـ أن يخفيه ، فعصره الألم والحزن ، وقال : «فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت اني خنت الله ورسوله».