وهذه الجملة رد مفحم على المشركين الجاهلين الذين استبعدوا أن يكون الرسول بشرا وقالوا قبل ذلك : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).
وقوله ـ تعالى ـ (نُوحِي إِلَيْهِمْ) استئناف مبين لكيفية الإرسال.
أى : اقتضت حكمتنا أن يكون الرسل من الرجال ، وأن نبلغهم ما نكلفهم به عن طريق الوحى المنزل إليهم من جهتنا.
وقوله ـ سبحانه ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) توبيخ لهم وتجهيل ، لأنهم قالوا ما قالوا بدون تعقل أو تدبر.
والمراد بأهل الذكر : علماء أهل الكتاب الذين كان المشركون يرجعون إليهم في أمور دينهم.
والفاء في قوله : (فَسْئَلُوا ..) لترتيب ما بعدها على ما قبلها. وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه.
أى : مادامت قد بلغت بكم الجهالة أن تستبعدوا أن يكون الرسول بشرا فاسألوا أهل العلم في ذلك ، فسيبينون لكم أن الرسل السابقين لم يكونوا إلا رجالا.
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم وسماهم أهل الذكر ، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء ، مما لم تعرفه العرب ، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب في أمر النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقال ابن زيد : أراد بالذكر : القرآن. أى : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن .. (١).
ثم أكد ـ سبحانه ـ هذه الحقيقة وهي كون الرسل من البشر فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ).
والضمير في (جَعَلْناهُمْ) يعود إلى الرسل ، والجسد مصدر جسد الدم يجسد ـ من باب فرح ـ إذا التصق بغيره ، وأطلق على الجسم جسد ، لالتصاق أجزائه بعضها ببعض ، ويطلق هذا اللفظ على الواحد المذكر وغيره ولذلك أفرد ، أو هو أفرد لإرادة الجنس.
أى : وما جعلنا الرسل السابقين عليك يا محمد أجسادا لا تأكل ولا تشرب كالملائكة ، وإنما جعلناهم مثلك يأكلون ويشربون ويتزوجون ويتناسلون ويعتريهم ما يعترى البشر من
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١١ ص ٢٧٢.