(قالُوا) أي : بعضهم وهم الذين سمعوا من إبراهيم قوله : «وتاللَّه لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين». (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَه إِبْراهِيمُ) والمراد بالذكر هنا : الذكر بالسوء والذم.
أي : سمعنا فتى يذكرهم بالنقص والذم والتهديد بالكيد ، وهذا الفتى يقال له إبراهيم ، ولعله هو الذي فعل بهم ما فعل.
وهنا تشاوروا فيما بينهم وقالوا. إذا كان الأمر كذلك : (فَأْتُوا بِه) وأحضروه (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) أي : أمام أعينهم ليتمكنوا من رؤيته على أتم وجه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) مساءلتنا له ، ومواجهتنا إياه بالعقوبة التي يستحقها على فعله هذا ، أو يشهدون عليه بأنه هو الذي حطم الأصنام.
قال ابن كثير : وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم ، أن يتبين في هذا المحفل العظيم ، كثرة جهلهم ، وقلة عقلهم ، في عبادة هذه الأصنام ، التي لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا ..» (١).
وجاؤا بإبراهيم ـ عليه السلام ـ وقالوا له على سبيل الاستنكار والتهديد : «أأنت فعلت هذا» التكسير والتحطيم «بآلهتنا» التي نعبدها «يا إبراهيم»؟
وهنا يرد عليهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : (بَلْ فَعَلَه كَبِيرُهُمْ هذا) يعنى الذي تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولي (فَسْئَلُوهُمْ) عمن فعل بهم ذلك (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل.
فأنت ترى أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذي حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذي يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التي تعبدونها من دون اللَّه. لا تدرى إن كنت أنا الذي حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذي حطمها إن كانت لكم عقول تعقل؟
قال صاحب الكشاف : هذا ـ أي قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا ـ من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعاني.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٣٤٣.