أى : ومن الناس قوم استولى عليهم الجهل والعناد ، لأنهم يجادلون وينازعون في ذات الله وصفاته ، وفي وحيه وفي أحكامه بغير مستند من علم عقلي أو نقلي ، وبغير دليل أو ما يشبه الدليل.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) معطوف على ما قبله. والمريد والمتمرد : البالغ أقصى الغاية في الشر والفساد ، يقال : مرد فلان على كذا ـ من باب نصر وظرف ـ إذا عتا وتجبر واستمر على ذلك.
وأصل المادة للملاسة والتجرد ، ومنه قولهم : شجرة مرداء ، أى ملساء لا ورق لها. وغلام أمرد. أى : لم ينبت في ذقنه شعر ..
أى : يجادل في ذات الله وصفاته بغير علم يعلمه ، ويتبع في جداله وتطاوله وعناده ، كل شيطان عاد عن الخير ، متجرد للفساد ، لا يعرف الحق أو الصلاح ، ولا هما يعرفانه ، وإنما هو خالص للشر والغي والمنكر من القول والفعل.
وتقييد الجدال بكونه بغير علم ، يفهم منه أن الجدال بعلم لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، سائغ محمود ، ولذا قال الإمام الفخر الرازي : «هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل ، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة» ، فالمجادلة الباطلة : هي المرادة من قوله ـ تعالى ـ : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً ..) (١) والمجادلة الحقة هي المرادة من قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..) (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء عاقبة هذا المجادل بالباطل ، والمتبع لكل شيطان مريد ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ).
أى : كتب على هذا الشيطان ، وقضى عليه «أنه من تولاه» أى اتخذه وليا وقدوة له «فأنه يضله» أى : فشأن هذا الشيطان أن يضل تابعه عن كل خير «ويهديه إلى عذاب السعير» أى : وأن شأن هذا الشيطان ـ أيضا ـ أن يهدى متبعه إلى طريق النار المستعرة ، وفي التعبير بقوله : (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) تهكم بمن يتبع هذا الشيطان ، إذ سمى ـ سبحانه ـ قيادة الشيطان لأتباعه هداية ..
وقد ذكر كثير من المفسرين أن هاتين الآيتين نزلنا في شأن النضر بن الحارث أو العاص بن وائل ، أو أبى جهل .. وكانوا يجادلون النبي صلىاللهعليهوسلم بالباطل.
ومن المعروف أن نزول هاتين الآيتين في شأن هؤلاء الأشخاص ، لا يمنع من عمومهما في
__________________
(١) سورة الزخرف الآية ٥٨.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٦ ص ١٤٣.