قال أبو حيان في البحر : لما ذكر ـ سبحانه ـ من يجادل في قدرة الله بغير علم ، وكان جدالهم في الحشر والمعاد ، ذكر دليلين واضحين على ذلك. أحدهما : في نفس الإنسان وابتداء خلقه. وتطوره في أطوار سبعة ، وهي : التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلا ، وبلوغ الأشد ، والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر.
والدليل الثاني : في الأرض التي يشاهد تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلا ، فإذا ورد الشرع بوقوعه ، وجب التصديق به ، وأنه واقع لا محالة (١).
والمراد بالناس هنا : المشركون وكل من كان على شاكلتهم في إنكار أمر البعث واستبعاده ، لأن المؤمنين يعترفون بأن البعث حق ، وأنه واقع بلا أدنى شك أو ريب.
والمعنى : يا أيها الناس إن كنتم في شك من أمر إعادتكم الى الحياة مرة أخرى للحساب يوم القيامة ، فانظروا وتفكروا في مبدأ خلقكم ، فإن هذا التفكر من شأنه أن يزيل هذا الشك ، لأن الذي أوجدكم الإيجاد الأول. وخلقكم من التراب ، قادر على إعادتكم إلى الحياة مرة أخرى ، إذ الإعادة ـ كما يعرف كل عاقل ـ أيسر من ابتداء الفعل.
وقد قرب ـ سبحانه ـ هذا المعنى في أذهانكم في آيات كثيرة ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).
وأتى ـ سبحانه ـ بأن المفيدة للشك فقال : (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) مع أن كونهم في ريب أمر محقق تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه ، وتنزيها لموضوع البعث عن أن يتحقق الشك فيه من أى عاقل ، وتوبيخا لهم لوضعهم الأمور في غير مواضعها.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية ، للإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
قال الآلوسى : «وقوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) دليل جواب الشرط ، أو هو الجواب بتأويل ، أى : إن كنتم في ريب من البعث ، فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم ، فإنا خلقناكم من تراب ، وخلقهم من تراب في ضمن خلق أبيهم آدم منه ...» (٣).
وقال بعض العلماء ما ملخصه : والتحقيق في معنى قوله ـ تعالى ـ (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ
__________________
(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٦ ص ٣٥١.
(٢) سورة الروم الآية ٢٧.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١٧ ص ١١٦.