وفي الحديث الشريف : «بعثت بالحنيفية السمحاء».
قال بعض العلماء : وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا ، بين المشقة في الأحكام الشرعية ، وبين الحرج والعسر فيها ، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعي ، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة ، أما المشقة الزائدة عن الحد التي تصل إلى حد الحرج ، فهي المرفوعة عن المكلفين.
فقد فرض الله الصلاة على المكلف ، وأوجب عليه أداءها ، وهذا شيء لا حرج فيه. ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام ، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء .. وهكذا جميع التكاليف الشرعية (١).
والخلاصة : أن هذا الدين الذي جاءنا به محمد صلىاللهعليهوسلم من عند ربه ـ عزوجل ـ مبنى على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا ، هم الناكبون عن هديه ، الخارجون على تعاليمه.
ورحم الله الإمام القرطبي فقد قال : «رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع ، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج ، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين ..» (٢).
والمراد بالملة في قوله ـ تعالى ـ : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) الدين والشريعة ، ولفظ «ملة» هنا منصوب بنزع الخافض.
أى : ما جعل عليكم ـ أيها المؤمنون ـ في دينكم من حرج ، كما لم يجعل ذلك ـ أيضا ـ في ملة أبيكم إبراهيم.
ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. أى : وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم.
ووصف ـ سبحانه ـ إبراهيم ـ عليهالسلام ـ بالأبوة لهذه الأمة ، لأن رسول هذه الأمة صلىاللهعليهوسلم ينتهى نسبه إلى إبراهيم ، ورسول هذه الأمة صلىاللهعليهوسلم كالأب لها ، من حيث إنه صلىاللهعليهوسلم جاءها من عند ربه ـ عزوجل ـ بما يحييها ويسعدها.
والضمير «هو» في قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ..) يعود
__________________
(١) تفسير آيات الأحكام ج ٣ ص ٩٨ للمرحوم الشيخ محمد على السائس.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٢ ص ١٠١.