مما يجب أن تطلب ويرغب فيها ، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ، ويقتدى بهم ، والإشارة بقوله : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) إلى المتصفين بتلك الصفات ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة مستأنفة. وقيل : إن (أُوْلئِكَ) وما بعده خبر لقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) كذا قال الزجاج ، والغرفة : الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ، وهي في الأصل لكلّ بناء مرتفع ، والجمع غرف. وقال الضحاك : الغرفة الجنة ، والباء في «بما صبروا» سببية ، وما مصدرية ، أي : يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى ابن وثاب وحمزة والكسائي وخلف (يُلَقَّوْنَ) بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف ، واختار هذه القراءة الفراء ، قال : لأن العرب تقول : فلان يلقى بالسلام والتحية والخير ، وقلّ ما يقولون يلقى. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) والمعنى : أنه يحيّي بعضهم بعضا ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام ، قيل : التحية البقاء الدائم والملك العظيم ، وقيل : هي بمعنى السلام ، وقيل : إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم ، والظاهر أن هذه التحية والسلام هي من الله سبحانه لهم ، ومن ذلك قوله سبحانه : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (١) وقيل معنى التحية : الدعاء لهم بطول الحياة ، ومعنى السلام : الدعاء لهم بالسلامة من الآفات ، وانتصاب (خالِدِينَ فِيها) على الحال ، أي : مقيمين فيها من غير موت (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي : حسنت الغرفة مستقرّا يستقرّون فيه ، ومقاما يقيمون به ، وهذا في مقابل ما تقدّم من قوله : ساءت مستقرّا ومقاما (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) بيّن سبحانه أنه غنّي عن طاعة الكلّ ، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف ، يقال : ما عبأت بفلان ، أي : ما باليت به ، ولا له عندي قدر ، وأصل يعبأ من العبء ، وهو الثقل. قال الخليل : ما أعبأ بفلان : أي : ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ، ويدّعي أن وجوده وعدمه سواء ، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي). يريد : أيّ وزن يكون لكم عنده. والعبء : الثقل ، وما استفهامية أو نافية ، وصرح الفراء بأنها استفهامية. قال ابن الشجري : وحقيقة القول عندي أن موضع (ما) نصب والتقدير : أيّ عبء يعبأ بكم ، أي : أيّ مبالاة يبالي بكم (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي : لو لا دعاؤكم إياه لتعبدوه ، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو اختيار الفراء ، وفاعله محذوف ، وجواب لولا محذوف ، تقديره : لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم ، ويؤيد هذا قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) والخطاب لجميع الناس ، ثم خصّ الكفار منهم فقال : (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) وقرأ ابن الزبير «فقد كذّب الكافرون» وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل : إن المصدر مضاف إلى الفاعل ، أي : لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى : ما يعبأ بكم ، أي : بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما ، وممن قال بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتبي والفارسي قالا : والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه ،
__________________
(١). الأحزاب : ٤٤.
(٢). الذاريات : ٥٦.