الكبير والصغير ، ومعنى (فَما ذا تَأْمُرُونَ) ما رأيكم فيه ، وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفا لهم ، واستجلابا لمودتهم ، لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال ، وقارب ما كان يغرّر به عليهم الاضمحلال ، وإلا فهو أكبر تيها ، وأعظم كبرا من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم ، وواحد منهم ، مع كونه قبل هذا الوقت يدّعي أنه إلههم ، ويذعنون له بذلك ويصدّقونه في دعواه ، ومعنى (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخر أمرهما ، من أرجأته إذا أخرته ، وقيل : المعنى احبسهما (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) وهم الشرط الذين يحشرون الناس ، أي : يجمعونهم (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) هذا ما أشاروا به عليه ، والمراد بالسحار العليم : الفائق في معرفة السحر وصنعته (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هو يوم الزينة كما في قوله : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) (١) (وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) حثا لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ولمن تكون الغلبة ، وكان ذلك ثقة من فرعون بالظهور وطلبا أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم ، فوقع ذلك من موسى الموقع الذي يريده ، لأنه يعلم أن حجة الله : هي الغالبة ، وحجة الكافرين : هي الداحضة ، وفي ظهور حجة الله بمجمع من الناس ، زيادة في الاستظهار للمحقين ، والانقهار للمبطلين ، ومعنى (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) نتبعهم في دينهم (إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) والمراد باتباع السحرة في دينهم : هو البقاء على ما كانوا عليه ، لأنه دين السحرة إذ ذاك ، والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى ، فعند ذلك طلب السحرة من موسى الجزاء على ما سيفعلونه ف (قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً) أي : لجزاء تجزينا به ؛ من مال أو جاه ، وقيل : أرادوا إن لنا ثوابا عظيما ، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم لموسى ، فقالوا : (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) فوافقهم فرعون على ذلك و (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي : نعم لكم ذلك عندي مع زيادة عليه ، وهي كونكم من المقرّبين لديّ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وفي آية أخرى (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) (٢) فيحمل ماهنا على أنه قال لهم : ألقوا بعد أن قالوا هذا القول ، ولم يكن ذلك من موسى عليهالسلام أمرا لهم بفعل السحر ، بل أراد أن يقهرهم بالحجة ويظهر لهم أن الذي جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا) عند الإلقاء (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) يحتمل قولهم بعزّة فرعون وجهين : الأوّل أنه قسم ، وجوابه : إنا لنحن الغالبون ، والثاني : متعلق بمحذوف ، والباء : للسببية ، أي : نغلب بسبب عزّته ، والمراد بالعزّة العظمة (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) قد تقدّم تفسير هذا مستوفى. والمعنى : أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك ، بإخراج الشيء عن صورته الحقيقة (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي : لما شاهدوا ذلك ، وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر ، ولا من تمويه السحرة ، آمنوا بالله ، وسجدوا له وأجابوا دعوة موسى ، وقبلوا نبوّته ، وقد تقدّم بيان معنى ألقى ، ومن فاعله لوقوع التصريح به ، وعند سجودهم (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) ربّ موسى عطف بيان لربّ العالمين ، وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما
__________________
(١). طه : ٥٩.
(٢). الأعراف : ١١٥.