أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣))
ثم ذكر سبحانه طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة ، فقال : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) العامل في الظرف ، فعل محذوف خوطب به النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والحشر : الجمع. قيل : والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق ، ومن : لابتداء الغاية ، والفوج : الجماعة كالزمرة ، ومن في (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) بيانية (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أوّلهم على آخرهم ، وقد تقدّم تحقيقه في هذه السورة مستوفى ، وقيل معناه : يدفعون ، ومنه قول الشماخ :
وكم وزعنا من خميس جحفل (١)
ومعنى الآية : واذكر يا محمد ، يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة ؛ مكذّبين بآياتنا ، فهم عند ذلك الحشر ، يرد أوّلهم على آخرهم ، أو يدفعون ، أي : اذكر لهم هذا أو بينه تحذيرا لهم وترهيبا (حَتَّى إِذا جاؤُ) إلى موقف الحساب قال الله لهم توبيخا وتقريعا (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي) التي أنزلتها على رسلي ، وأمرتهم بإبلاغها إليكم «و» الحال أنكم (لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) بل كذبتم بها بادئ بدء ، جاهلين لها غير ناظرين فيها ، ولا مستدلين على صحتها ، أو بطلانها تمرّدا ، وعنادا وجرأة على الله وعلى رسله ، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ ، لأن من كذب بشيء ولم يحط به علما فقد كذب في تكذيبه ، ونادى على نفسه بالجهل ، وعدم الإنصاف ، وسوء الفهم ، وقصور الإدراك ، ومن هذا القبيل من تصدّى لذمّ علم من العلوم الشرعية ، أو لذمّ علم هو مقدّمة من مقدّماتها ، ووسيلة يتوسل بها إليها ، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها ، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها ، وهي اثنا عشر علما ، وعلم أصول الفقه ، فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية ، وهكذا كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسنة رسوله ، فإنه قد نادى على نفسه ، بأرفع صوت ، بأنه جاهل مجادل بالباطل ، طاعن على العلوم الشرعية ، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن جهله ، وضلاله ، وطعنه على ما لا يعرفه ، ولا يعلم به ، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره ، وموعظة يتعظ بها أمثاله من ضعاف العقول وركاك الأديان ، ورعاع المتلبسين بالعلم زورا وكذبا ، وأما في قوله : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هي المنقطعة ، والمعنى : أم أيّ شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها ، والتفكر في معانيها ، وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) قد تقدّم تفسيره قريبا ، والباء في (بِما ظَلَمُوا) للسببية ، أي : وجب القول عليهم بسبب الظلم ، الذي أعظم أنواعه الشرك بالله (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) عند وقوع القول عليهم ، أي : ليس لهم عذر ينطقون به ، أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم.
__________________
(١). وعجزه : وكم حبونا من رئيس مسحل.