بل لا بد أن يختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق ، والصادق من الكاذب ، فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده ، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها. قال الزجاج : المعنى : أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ، ولا يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم ، وهو قوله : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). قال السدّي وقتادة ومجاهد : أي لا يبتلون في أموالهم ، وأنفسهم بالقتل ، والتعذيب ، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرناه ، وظاهرها شمول كلّ الناس من أهل الإيمان ، وإن كان السبب خاصا ، فالاعتبار بعموم اللفظ كما قررناه غير مرّة. قال ابن عطية : وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص ، فهي باقية في أمة محمّد صلىاللهعليهوسلم موجود حكمها بقية الدهر ، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدوّ وغير ذلك (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : هذه سنة الله في عباده ، وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة ، كما اختبر من قبلهم من الأمم ، كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء ، وما وقع مع قومهم من المحن ، وما اختبر الله به أتباعهم ، ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) في قولهم : آمنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) منهم في ذلك ، قرأ الجمهور «فليعلمنّ» بفتح الياء واللام في الموضعين ، أي : ليظهرنّ الله الصادق ، والكاذب في قولهم ، ويميز بينهم ، وقرأ عليّ بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام. والمعنى : أي يعلم الطائفتين في الآخرة بمنازلهم ، أو يعلم الناس بصدق من صدق ، ويفضح الكاذبين بكذبهم ، أو يضع لكلّ طائفة علامة تشتهر بها ، وتتميز عن غيرها (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أي : يفوتونا ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون ، وهو سادّ مسدّ مفعولي حسب ، وأم هي المنقطعة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي : بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك. وقال الزجاج : «ما» في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. قال : ويجوز أن تكون «ما» في موضع رفع بمعنى ساء الشيء أو الحكم حكمهم ، وجعلها ابن كيسان مصدرية ، أي : ساء حكمهم (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) أي : من كان يطمع ، والرجاء : بمعنى الطمع. قاله سعيد بن جبير. وقيل : الرجاء هنا : بمعنى الخوف. قال القرطبي : وأجمع أهل التفسير على أن المعنى : من كان يخاف الموت ، ومنه قول الهذلي :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها (١)
قال الزجاج : معنى من كان يرجو لقاء الله : من كان يرجو ثواب لقاء الله ، أي : ثواب المصير إليه ، فالرجاء على هذا : معناه الأمل (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) أي : الأجل المضروب للبعث آت لا محالة. قال مقاتل : يعني يوم القيامة ، والمعنى : فليعمل لذلك اليوم كما في قوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (٢) ومن في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية ، والجزاء فإن أجل الله لآت ، ويجوز أن تكون
__________________
(١). وعجز البيت :
وحالفها في بيت نوب عوامل.
(٢). الكهف : ١١٠.