والأولى ما ذكرناه ، ويكون في الكلام حذف ، والتقدير : فمنهم مقتصد ، ومنهم كافر ، ويدلّ على هذا المحذوف قوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الختر : أسوأ الغدر وأقبحه ، ومنه قول الأعشى :
بالأبلق الفرد من تيماء منزله |
|
حصن حصين وجار غير ختّار |
قال الجوهري : الختر : الغدر ، يقال خترة ؛ فهو ختار. قال الماوردي : وهذا قول الجمهور. وقال ابن عطية : إنه الجاحد ، وجحد الآيات : إنكارها ، والكفور : عظيم الكفر بنعم الله سبحانه (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي : لا يغني الوالد عن ولده شيئا ، ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله بنفسه. وقد تقدّم بيان معناه في البقرة (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) ذكر سبحانه فردين من القرابات ، وهو الوالد ، والولد ، وهما الغاية في الحنوّ والشفقة على بعضهم البعض ، فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى ، فكيف بالأجانب. اللهمّ اجعلنا ممن لا يرجو سواك ، ولا يعوّل على غيرك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) لا يتخلف ؛ فما وعد به من الخير وأوعد به من الشرّ ، فهو كائن لا محالة (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وزخارفها ، فإنها زائلة ذاهبة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قرأ الجمهور «الغرور» بفتح الغين المعجمة ، والغرور : هو الشيطان ، لأن من شأنه أن يغرّ الخلق ، ويمنيهم بالأماني الباطلة ، ويلهيهم عن الآخرة ، ويصدّهم عن طريق الحق. وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين مصدر غرّ يغرّ غرورا ، ويجوز أن يكون مصدرا ؛ واقعا وصفا للشيطان على المبالغة (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : علم وقتها الذي تقوم فيه. قال الفراء : إن معنى هذا الكلام النفي ، أي : ما يعلمه أحد إلا الله عزوجل. قال النحاس : وإنما صار فيه معنى النفي لما ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (١) إنها هذه (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) في الأوقات التي جعلها معينة لإنزاله ولا يعلم ذلك غيره (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من الذكور والإناث ، والصلاح والفساد (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة ، والأنبياء ، والجنّ ، والإنس (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من كسب دين أو كسب دنيا (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي : بأيّ مكان يقضي الله عليها بالموت. قرأ الجمهور «وينزل الغيث» مشدّدا. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي مخففا. وقرأ الجمهور «بأيّ أرض» وقرأ أبيّ بن كعب وموسى الأهوازي «بأية» وجوّز ذلك الفراء وهي لغة ضعيفة. قال الأخفش : يجوز أن يقال مررت بجارية أيّ جارية. قال الزجاج : من ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ختار) قال : جحاد. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قال : هو الشيطان. وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة. وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : «جاء رجل من أهل البادية إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني
__________________
(١). الأنعام : ٥٩.