تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))
قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) المراد بالمجرمين : هم القائلون أإذا ضللنا ، والخطاب هنا لكل من يصلح له ، أو لرسول الله صلىاللهعليهوسلم. ويجوز أن يراد بالمجرمين : كل مجرم ، ويدخل فيه أولئك القائلون دخولا أوليا ، ومعنى : (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) مطأطئوها حياء وندما على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله ، والعصيان له ، ومعنى عند ربهم : عند محاسبته لهم. قال الزجاج : والمخاطبة للنبي صلىاللهعليهوسلم مخاطبة لأمته ، فالمعنى : ولو ترى يا محمّد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي : يقولون : ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به ، وسمعنا ما كنا ننكره ، وقيل : أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك ، فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر ، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع (فَارْجِعْنا) إلى الدنيا (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) كما أمرتنا (إِنَّا مُوقِنُونَ) أي : مصدّقون ، وقيل : مصدقون بالذي جاء به محمّد صلىاللهعليهوسلم ، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن ؛ طمعا فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا ، وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١) وقيل معنى : (إِنَّا مُوقِنُونَ) أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا لما رأوا ما رأوا ، وسمعوا ما سمعوا ، ويجوز أن يكون معنى (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) صرنا ممن يسمع ويبصر ، فلا يحتاج إلى تقدير مفعول ، ويجوز أن يكون صالحا مفعولا لنعمل ، كما يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، وجواب لو محذوف ؛ أي : لرأيت أمرا فظيعا وهولا هائلا (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) هذا ردّ عليهم لما طلبوا الرجعة ، أي : لو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها ، فهدينا الناس جميعا فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس : في معنى هذا قولان : أحدهما أنه في الدنيا ، والآخر أنه في الآخرة : أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وجملة لو شئنا : مقدّرة بقول معطوف على المقدّر قبل قوله : «أبصرنا» أي : ونقول : لو شئنا ، ومعنى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي : نفذ قضائي وقدري ، وسبقت كلمتي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هذا هو القول الذي وجب من الله ، وحقّ على عباده ، ونفذ فيه قضاؤه ، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كلّ نفس هداها ، وإنما قضى عليهم بهذا ، لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة ، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى ، والفاء في قوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله ، والباء في «بما نسيتم» للسببية ، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدّم ، بل بذاك وهذا.
واختلف في النسيان المذكور هنا ، فقيل : هو النسيان الحقيقي ، وهو الذي يزول عنده الذكر ؛ وقيل : هو الترك. والمعنى على الأوّل : أنهم لم يعملوا لذلك اليوم ، فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه. وعلى الثاني : لا بدّ من تقدير مضاف قبل لقاء ، أي : ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا ، ورجح الثاني : المبرد وأنشد :
__________________
(١). الأنعام : ٢٨.