(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : من الذي رزقناهم أو من رزقهم ، وذلك الصدقة الواجبة ، وقيل : صدقة النفل ، والأولى : الحمل على العموم ، وانتصاب خوفا وطمعا : على العلة ، ويجوز أن يكونا مصدرين منتصبين بمقدّر (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) النكرة في سياق النفي تفيد العموم ، أي : لا تعلم نفس من النفوس ـ أي نفس كانت ـ ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين تقدّم ذكرهم بما تقرّ به أعينهم ، قرأ الجمهور قرّة بالإفراد. وقرأ ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وأبو الدرداء «من قرّات» بالجمع ، وقرأ حمزة ما أخفي بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه ، وقرأ الباقون بفتحها فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود «ما نخفي» بالنون مضمومة ، وقرأ الأعمش «يخفى» بالتحتية مضمومة. قال الزجاج في معنى قراءة حمزة ، أي : منه ما أخفى الله لهم ، وهي قراءة محمّد بن كعب ، و «ما» في موضع نصب. ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة فقال : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا ، أو جوزوا جزاء بذلك (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) الاستفهام : للإنكار؟ أي : ليس المؤمن كالفاسق فقد ظهر ما بينهما من التفاوت ، ولهذا قال : (لا يَسْتَوُونَ) ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام. قال الزجاج : جعل الاثنين جماعة حيث قال : (لا يَسْتَوُونَ) لأجل معنى من ، وقيل : لكون الاثنين أقل الجمع ، وسيأتي بيان سبب نزولها آخر البحث. ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين ، وبدأ بالمؤمنين فقال : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) قرأ الجمهور «جنات» بالجمع ، وقرأ طلحة بن مصرف «جنة المأوى» بالإفراد ، والمأوى هو الذي يأوون إليه ، وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي ، وقيل : المأوى جنة من الجنات ، وقد تقدّم الكلام على هذا ، ومعنى : (نُزُلاً) أنها معدّة لهم عند نزولهم ، وهو في الأصل ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب ، كما بيناه في آل عمران ، وانتصابه على الحال. وقرأ أبو حيوة «نزلا» بسكون الزاي ، والباء في (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) للسببية ، أي : بسبب ما كانوا يعملونه ، أو بسبب عملهم. ثم ذكر الفريق الآخر فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي : خرجوا عن طاعة الله ، وتمرّدوا عليه وعلى رسله (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي : منزلهم الذي يصيرون إليه ، ويستقرّون فيه هو النار (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي : إذا أرادوا الخروج منها ردّوا إليها راغمين مكرهين ، وقيل : إذا دفعهم اللهب إلى أعلاها ردّوا إلى مواضعهم (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) والقائل لهم هذه المقالة : هو خزنة جهنم من الملائكة ، أو القائل لهم : هو الله عزوجل ، وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة لهم ما لا يخفى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) وهو عذاب الدنيا. قال الحسن وأبو العالية والضحاك والنخعي : هو مصائب الدنيا ، وأسقامها ، وقيل : الحدود ، وقيل : القتل بالسيف يوم بدر ، وقيل : سنين الجوع بمكة ، وقيل : عذاب القبر ، ولا مانع من الحمل على الجميع (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه. وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال : إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر