سِرًّا وَعَلانِيَةً) فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ ، فإن تهيأ سرّا فهو أفضل وإلا فعلانية ، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء ، ويمكن أن يراد بالسرّ : صدقة النفل ، وبالعلانية : صدقة الفرض وجملة (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب وغيره ، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى : (لَنْ تَبُورَ) لن تكسد ولن تهلك ، وهي صفة للتجارة والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم ، واللام في : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلق بلن تبور ، على معنى : أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (١) وقيل : إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق ، أي : فعلوا ذلك ليوفّيهم ، ومعنى : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم ، وجملة : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة ، أي : غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم ، وقيل : إن هذه الجملة هي خبر إنّ ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني : القرآن ، وقيل : اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية أو ابتدائية ، وجملة : (هُوَ الْحَقُ) خبر الموصول (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) منتصب على الحال : أي موافقا لما تقدّمه من الكتب (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي : محيط بجميع أمورهم (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) المفعول الأوّل لأورثنا : الموصول ، والمفعول الثاني : الكتاب ، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف والتعظيم للكتاب ، والمعنى : ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو القرآن ، أي قضينا وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمّد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، ومعنى اصطفائهم اختيارهم واستخلاصهم ، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم ؛ قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء ، وسيد ولد آدم. قال مقاتل : يعني قرآن محمّد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا. وقيل إن المعنى : أورثناه من الأمم السالفة ، أي : أخرناه عنهم وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأوّل أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه ؛ واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام فقال : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قد استشكل كثيرا من أهل العلم معنى هذه الآية ، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد ، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالما لنفسه؟ فقيل : إن التقسيم هو راجع إلى العباد ، أي : فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو الكافر ، ويكون ضمير يدخلونها عائدا إلى المقتصد والسابق. وقيل : المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به ، وهو المرجئ لأمر الله ، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته ، لقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) (٢) وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء. وقيل الظالم لنفسه : هو الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة ، وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور
__________________
(١). النساء : ١٧٣.
(٢). الأعراف : ١٦٩.