واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده ، فقال بالأوّل طائفة ، وبالآخر آخرون ، وقالت طائفة بالجمع بين القولين : إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع ، ولكن كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ، ثم بعد المبعث رميت في كلّ وقت ، ومن كلّ جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع ؛ إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ، ومعنى (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) ولهم عذاب دائم لا ينقطع ، والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب. وقال مقاتل : يعني دائما إلى النفخة الأولى ، والأوّل أولى. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم. وقال السدّي وأبو صالح والكلبي : هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب ، مأخوذ من الوصب وهو المرض ، وقيل : هو الشديد ، والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) هو من قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ) أو من قوله : (وَيُقْذَفُونَ). وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض. والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة. قرأ الجمهور (خَطِفَ) بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة ، وقرأ قتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغة تميم بن مرّ وبكر بن وائل. وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة. وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء ، وقيل : إن الاستثناء منقطع (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي : لحقه وتبعه شهاب ثاقب : نجم مضيء فيحرقه ، وربما لا يحرقه فيلقى إلى إخوانه ما خطفه ، وليست الشهب التي يرجم بها هي الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت ، وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا : إذا اتقدت ، وهذه الآية هي كقوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١) (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي : اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشدّ خلقا وأقوى أجساما وأعظم أعضاء ، أم من خلقنا من السموات والأرض والملائكة؟ قال الزجاج : المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أشدّ خلقا : أي أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي : إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب : أي لاصق ، يقال لزب يلزب لزوبا : إذا لصق. وقال قتادة وابن زيد : اللازب اللازق. وقال عكرمة : اللازب اللزج. وقال سعيد بن جبير : اللازب الجيد الذي يلصق باليد. وقال مجاهد : هو اللازم ، والعرب تقول : طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم ، واللازم الثابت كما يقال : صار الشيء ضربة لازب ، ومنه قول النابغة :
لا تحسبون الخير لا شرّ بعده |
|
ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب |
وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم ، واللاتب : الثابت. قال الأصمعي. واللاتب : اللاصق مثل اللازب. والمعنى في الآية : أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلقون من هذا الخلق الضيف
__________________
(١). الحجر : ١٨.