أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه ، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا : أي وقلنا له (يا داوُدُ إِنَّا) استخلفناك على الأرض ، أو (جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي : هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليهالسلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالنصب على أنه جواب للنهي وفاعل يضلك هو الهوى ، ويجوز أن يكون الفعل مجزوما بالعطف على النهي ، وإنما حرك لالتقاء الساكنين ، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما ، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كلّ واحد منهما على حدة. وسبيل الله : هو طريق الحق ، أو طريق الجنة ، وجملة (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) تعليل للنهي عن اتباع الهوى والوقوع في الضلال ، والباء في (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) للسببية ، ومعنى النسيان الترك : أي : بسبب تركهم العمل لذلك اليوم : قال الزجاج : أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين وإن كانوا ينذرون ويذكرون. وقال عكرمة والسدّي : في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا ، أي : تركوا القضاء بالعدل ، والأوّل أولى. وجملة (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) مستأنفة مقرّرة لما قبلها من أمر البعث والحساب : أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقا باطلا خارجا على الحكمة الباهرة ، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا ، فانتصاب باطلا على المصدرية ، أو على الحالية ، أو على أنه مفعول لأجله ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى المنفيّ قبله ، وهو : مبتدأ ، وخبره : (ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : مظنونهم ، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ، ويقولون إنه لا قيامة ، ولا بعث ، ولا حساب ، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلا (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، أي : فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم. ثم وبخهم وبكتهم فقال : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) قال مقاتل : قال كفار قريش للمؤمنين : إنا نعطى في الآخرة كما تعطون فنزلت ، وأم هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة : أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله ، وصدقوا رسله ، وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي. ثم أضرب سبحانه إضرابا آخر ، وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي : بل نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين ، وقيل : إن الفجار هنا خاص بالكافرين ، وقيل : المراد بالمتقين الصحابة ، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ