والخضوع لحكمه ، وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) أي : عذاب الدنيا كما يفيده قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ) فليس في ذلك ما يدلّ على ما زعمه الزاعمون ، وتمسك به القانطون المقنطون ، والحمد لله رب العالمين (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني : القرآن ، يقول : أحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، والقرآن كله حسن. قال الحسن : التزموا طاعته واجتنبوا معاصيه. وقال السدّي : الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد : يعني المحكمات ، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه. وقيل : الناسخ دون المنسوخ ، وقيل : العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام ، وقيل : أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي : من قبل أن يفاجئكم العذاب ؛ وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به ، وقيل : أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب. والأوّل أولى لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والقهر ، والخوف ، والجدب ، لا عذاب الآخرة ، ولا الموت ، لأنه لم يسند الإتيان إليه (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) قال البصريون : أي حذرا أن تقول. وقال الكوفيون : لئلا تقول. قال المبرد : بادروا خوف أن تقول ، أو حذرا من أن تقول نفس. وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها : يا حسرتا على ما فرّطت في جنب الله ، قيل : والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة ، وقيل : المراد به التكثير كما في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١) قرأ الجمهور «يا حسرتا» بالألف بدلا من الياء المضاف إليها ، والأصل يا حسرتي ، وقرأ ابن كثير «يا حسرتاه» بهاء السكت وقفا ، وقرأ أبو جعفر «يا حسرتي» بالياء على الأصل. والحسرة : الندامة ، ومعنى (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) على ما فرّطت في طاعة الله ، قاله الحسن. وقال الضحاك : على ما فرّطت في ذكر الله ، ويعني به القرآن ، والعمل به. وقال أبو عبيدة (فِي جَنْبِ اللهِ) أي : في ثواب الله. وقال الفراء : الجنب : القرب والجوار ، أي : في قرب الله وجواره ، ومنه قوله : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) (٢) والمعنى على هذا القول ، على ما فرّطت في طلب جنب الله : أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة ، وبه قال ابن الأعرابي وقال الزجاج : أي فرّطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوّة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب : أي قصرت في الجانب الذي يؤدّي إلى رضا الله ، ومنه قول الشاعر :
النّاس جنب والأمير جنبا (٣)
أي الناس من جانب والأمير من جانب (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي : وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا ، ومحل الجملة النصب على الحال. قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي ، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة ، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) (٤) فهي كلمة حقّ يريدون بها باطلا. ثم ذكر سبحانه مقالة.
__________________
(١). التكوير : ١٤.
(٢). النساء : ٣٦.
(٣). وصدره : قسم مجهودا لذاك القلب.
(٤). الأنعام : ١٤٨.