كُنَّا مُنْذِرِينَ) جواب ثان ، أو : جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال ، وفي حكم العلة له كأنه قال : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار ، والضمير في أنزلناه راجع إلى الكتاب المبين وهو القرآن. وقيل : المراد بالكتاب سائر الكتب المنزّلة ، والضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة أنه أنزل القرآن ، والأوّل أولى. والليلة المباركة : ليلة القدر كما في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة القدر. قال عكرمة : الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان. وقال قتادة : أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلىاللهعليهوسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٢) وقال مقاتل : كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام ، ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها ، وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا ، ولكونها تتنزّل فيها الملائكة والروح ، كما سيأتي في سورة القدر ، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه هاهنا بقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) ومعنى يفرق : يفصل ويبين من قولهم : فرقت الشيء أفرقه فرقا ، والأمر الحكيم : المحكم ، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت وبسط وخير وشرّ وغير ذلك ، كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم : وهذه الجملة : إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض ، أو : مستأنفة لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور «يفرق» بضمّ الياء وفتح الراء مخففا ، وقرأ الحسن والأعمش والأعرج بفتح الياء وضم الراء ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل. والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ، لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وبقوله في سورة القدر : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ولا ما يقتضي الاشتباه (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) قال الزجاج والفراء : انتصاب أمرا بيفرق ، أي : يفرق فرقا ، لأن أمرا بمعنى فرقا. والمعنى : إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك يضرب ضربا. قال المبرد : أمرا في موضع المصدر ، والتقدير أنزلناه إنزالا. وقال الأخفش : انتصابه على الحال ، أي : آمرين. وقيل : هو منصوب على الاختصاص ، أي : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، وفيه تفخيم لشأن القرآن ، وتعظيم له. وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا اثني عشر وجها أظهرها ما ذكرناه. وقرأ زيد بن علي «أمر» بالرفع ، أي : هو أمر (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) هذه الجملة : إما بدل من قوله : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أو : جواب ثالث للقسم ، أو : مستأنفة ، قال الرازي : المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) انتصاب رحمة على العلة ، أي : أنزلناه للرحمة ، قاله الزجاج. وقال المبرد : إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين ، أي : إنا كنا مرسلين رحمة. وقيل : هي مصدر في موضع الحال ، أي : راحمين ، قاله الأخفش. وقرأ الحسن «رحمة» بالرفع على تقدير : هي رحمة
__________________
(١). القدر : ١.
(٢). البقرة : ١٨٥.