ولما فرغ من بيان التوحيد ، وتزييف مذاهب المشركين ، شرع في ذكر شبه منكري النبوّة. فالشبهة الأولى : ما حكاه عنهم بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) أي : كذب (افْتَراهُ) أي : اختلقه محمد صلىاللهعليهوسلم ، والإشارة بقوله هذا : إلى القرآن (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي : على الاختلاق (قَوْمٌ آخَرُونَ) يعنون من اليهود. قيل وهم : أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي ، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى ، وجبر مولى ابن عامر ، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود ، وقد مرّ الكلام على مثل هذا في النحل. ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي : فقد قالوا ظلما هائلا عظيما وكذبا ظاهرا ، وانتصاب ظلما بجاؤوا ، فإن جاء : قد يستعمل استعمال أتى ، ويعدّى تعديته. وقال الزجاج : إنه منصوب بنزع الخافض ، والأصل ، جاءوا بظلم. وقيل : هو منتصب على الحال ، وإنما كان ذلك منهم ظلما لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه ، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الظلم ، وأما كون ذلك منهم زورا فظاهر ، لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة. ثم ذكر الشبهة الثانية فقال : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديث الأوّلين ، وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج : واحد الأساطير : أسطورة ، مثل : أحاديث ، وأحدوثة ، وقال غيره : أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال (اكْتَتَبَها) أي : استكتبها أو كتبها لنفسه ، ومحل اكتتبها : النصب على أنه حال من أساطير ، أو محله الرفع على أنه خبر ثان ، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه أساطير الأوّلين اكتتبها ، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ ، واكتتبها خبره ، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب ، وهو الجمع ، لا من الكتابة بالقلم. والأوّل : أولى. وقرأ طلحة (اكْتَتَبَها) مبنيا للمفعول ، والمعنى : اكتتبها له كاتب ، لأنه كان أميا لا يكتب ، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى ضمير فصار اكتتبها إياه ، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه ، فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا ، كذا قال في الكشاف ، واعترضه أبو حيان (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي : تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه من يمليها من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه ، ويجوز أن يكون المعنى اكتتبها أراد اكتتابها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) لأنه يقال : أمليت عليه فهو يكتب (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) غدوة وعشيا كأنهم قالوا : إن هؤلاء يعلمون محمدا طرفي النهار ، وقيل : معنى بكرة وأصيلا : دائما في جميع الأوقات ، فأجاب سبحانه عن هذه الشبهة بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم ، وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأوّلين ، بل هو أمر سماويّ أنزله الذي يعلم كلّ شيء لا يغيب عنه شيء من الأشياء ، فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه ، وخصّ السرّ للإشارة إلى انطواء ما أنزله سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر ، والسرّ : الغيب ، أي : يعلم الغيب الكائن فيهما ، وجملة (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل لتأخير العقوبة ، أي : إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على رسوله والظلم له ، فإنه لا يعجل عليكم بذلك ، لأنه كثير المغفرة والرحمة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (تَبارَكَ) تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد