هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه ، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي ، والفرقان : القرآن ، وسمى فرقانا ، لأنه يفرق بني الحقّ والباطل بأحكامه ، أو بين المحق والمبطل ، والمراد بعبده نبينا صلىاللهعليهوسلم. ثم علل التنزيل (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) فإن النذارة هي الغرض المقصود من الإنزال ، والمراد : محمد صلىاللهعليهوسلم أو الفرقان ، والمراد بالعالمين هنا : الإنس والجنّ ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم مرسل إليهما ، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلا إلى الثقلين ، والنذير : المنذر ، أي : ليكون محمد منذرا ، أو ليكون إنزال القرآن منذرا ، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة ، أي : ليكون إنزاله إنذارا ، وجعل الضمير للنبيّ صلىاللهعليهوسلم أولى ، لأن صدور الإنذار منه حقيقة ، ومن القرآن مجاز ، والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور. وقيل : إن رجوع الضمير إلى الفرقان أولى لقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١) ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع : الأولى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون غيره فهو المتصرّف فيهما ، ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلا ، أو بيانا للموصول الأوّل ، والوصف أولى ، وفيه تنبيه على افتقار الكلّ إليه في الوجود وتوابعه من البقاء وغيره. والصفة الثانية : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وفيه ردّ على النصارى واليهود. والصفة الثالثة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) وفيه ردّ على طوائف المشركين من الوثنية ، والثنوية ، وأهل الشرك الخفي. والصفة الرابعة : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) من الموجودات (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي : قدّر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد ، وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي : قال المفسرون : قدر له تقديرا من الأجل والرزق ، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل : أريد بالخلق هنا مجرّد الإحداث ، والإيجاد مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر ، فيكون المعنى : أوجد كل شيء فقدّره لئلا يلزم التكرار ، ثم صرّح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدّم لهم ذكر ، لدلالة نفي الشريك عليهم ، أي : اتخذ المشركون لأنفسهم ـ متجاوزين الله ـ آلهة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) والجملة في محل نصب : صفة لآلهة ، أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء ، وغلب العقلاء على غيرهم ، لأن في معبودات الكفار : الملائكة ، وعزير ، والمسيح (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : يخلقهم الله سبحانه. وقيل : عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جريا على اعتقاد الكفار أنها تضرّ وتنفع. وقيل : معنى (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أن عبدتهم يصوّرونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة ، وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي : لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ولا يدفعوا عنها ضررا ، وقدّم ذكر الضرّ لأن دفعه أهمّ من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع ، فيما يتعلق بأنفسهم ، فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) أي : لا يقدرون على إماتة الأحياء ، ولا إحياء الموتى ، ولا بعثهم من القبور ، لأن النشور : الإحياء بعد الموت ، يقال أنشر الله الموتى فنشروا ، ومنه قول الأعشى :
حتّى يقول الناس ممّا رأوا |
|
يا عجبا للميّت الناشر |
__________________
(١). الإسراء : ٩.