أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي : هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمدا صادق ، أو هلا أنزلوا علينا رسلا يرسلهم الله (أَوْ نَرى رَبَّنا) عيانا فيخبرنا بأن محمدا رسول. ثم أجاب سبحانه عن شبههم هذه فقال : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي : أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) (١) والعتوّ : مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته ، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم ، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم ، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان ، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله ، أو تعدّ من المستعدّين له ، وهكذا من جهل قدر نفسه ، ولم يقف عند حدّه ، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه لا يرى ، وانتصاب (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) بفعل محذوف ، أي : واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها ، بل على وجه آخر ، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر ، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدلّ عليه قوله : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي : يمنعون البشرى يوم يرون ، أو لا توجد لهم بشرى فيه ، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة ، وهو وقت الموت ، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج : المجرمون في هذا الموضع الذي اجترموا الكفر بالله (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي : ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا ، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة ، يقال للرجل : أتفعل كذا ، فيقول : حجرا محجورا ، أي : حراما عليك التعرّض لي. وقيل : إن هذا من قول الملائكة ، أي : يقولون للكفار : حراما محرّما أن يدخل أحدكم الجنة ، ومن ذلك قول الشاعر :
ألا أصبحت أسماء حجرا محرّما |
|
وأصبحت من أدنى حموّتها حما (٢) |
أي : أصبحت أسماء حراما محرّما ، وقال آخر :
حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها |
|
حجر حرام ألّا تلك الدهاريس |
وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة ، وجعلها من جملتها (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) هذا وعيد آخر ، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها صورة الخير : من صلة الرحم ، وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها ، ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه ، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئا ، وإلا فلا قدوم هاهنا. قال الواحدي : معنى قدمنا عمدنا وقصدنا ، يقال : قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده ، ومنه قول الشاعر :
__________________
(١). فاطر : ٥٦.
(٢). قاله رجل كانت له امرأة فطلقها وتزوجها أخوه ، أي : أصبحت أخا زوجها بعد ما كنت زوجها.