قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).
إن قلت : الخشية الخوف ، والإشفاق الخوف ، فكيف هم خائفون من الخوف؟ قلنا : الإشفاق وقوع متعلق الخوف فهم خائفون من وقوع العذاب بهم خائفون ، وذكر ابن عطية : إن من البيان الجنس ، والصواب أنها للسبب ، ويؤخذ منه جواز أن يقال : سبحان من تواضع كل شيء لعظمته ، وتقدم نحوه في سورة الأنبياء في قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)(١) [سورة الأنبياء : ٢٨] ، فإن التواضع للعظمة من حيث كونها صفة لله بالتواضع ، إنما هو للذات فكذلك الخوف ، وما وجه من منع أن يقال : سبحان من تواضع كل شيء لعظمته إلا أنه فهم اللام التعدية لا للسبب ، وإن جعلناها للسبب زال الإشكال ، ويكون التواضع للذات لأجل العظمة ، قال : سلك في الآية مسلك الترقي بالانتقال من حالة الوقف والتردد ، وهي حالة العمل بالفروع ، وبقى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، فالأول هو زمن النظر لهم فهم مشفقون خائفون من عدم العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل على وجود الصانع ، وكذلك اختلف الأصوليون في أول الواجبات ، فقيل : النظر ، وقيل : القصد إلى النظر ، وقال أبو هاشم [...].
قال ابن عرفة : وأكد الثلاثة الأول : بضمير الجمع ، لأنها لبيان الأصول المستلزم للسلامة من صغير الكفر المقطوع لتعذيب صاحبها ، والرابع : إيمانه بالفروع المستلزم للسلامة من صفة العصيان التي تحتاجها في المشيئة غير مقطوع بتعذيبه ، فلذلك لم يقل (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) ، أو (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، احتراس لقوله تعالى : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) ، خشية أن يتوهم مسابقتهم إلى فعل ما لا يطاق ، ويؤخذ منه جواز تكليف ما لا يطاق ، وعدم وقوعه ، قال الفخر : والتكليف إنما يقع بدون الوسع لا بالوسع بقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨].
قال ابن عرفة : التكليف بالتعذر ساقط ، والتكليف بالمقصر واقع بوقوف الواحد للعشرة ، وقد ورد التكليف به وكوقوف المائة للألف يعني للجهاد.
قوله تعالى : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا).
__________________
(١) وردت في المخطوطة : وهم من خشية ربهم مشفقون ووردت في المصحف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وقد أثبتنا ما في المصحف.