وهذا يقتضي مدّة أعمارهم ، ثم حكم بفسقهم ، ثم استثنى تعالى من تاب وأصلح من بعد القذف ، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع ، وعامل في فسقه بإجماع ، واختلف في عمله في ردّ الشهادة ، والجمهور أنّه عامل في ردّ الشهادة ، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته ، ثم اختلفوا في صورة توبته ، فقيل بأن يكذّب نفسه ، وإلّا لم تقبل ، وقالت فرقة منها مالك : توبته أن يصلح وتحسن حاله (١). وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف فقال ابن الماجشون : بنفس قذفه ، وقال ابن القاسم وغيره : لا تسقط حتى يجلد ، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم تردّ شهادته ، قال اللّخميّ : شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة ، و (تابُوا) معناه : رجعوا ، وقد رجّح الطبريّ (٢) وغيره قول مالك ، واختلف أيضا على القول بجواز شهادته ، فقال مالك : تجوز في كل شيء بإطلاق ، وكذلك كلّ من حدّ في شيء.
وقال سحنون : من حدّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حدّ فيه ، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أنّ شهادته لا تجوز في الزنا.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠)
وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ...) الآية : لما رمى هلال بن أميّة الواقفيّ زوجته بشريك بن سحماء ـ عزم النبي صلىاللهعليهوسلم على ضربه حدّ القذف ؛ فنزلت هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح ، فجمعهما صلىاللهعليهوسلم في المسجد ،
__________________
ـ فيما قلت ، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت ، لأنه ربما يكون صادقا ، فيكون قوله : «كذبت» كذبا ، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل ، وندمت على ما فعلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه. وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه ، فيقول : كذبت فيما قلت. وقال بعض العلماء : توبة القاذف كتوبة غيره ، أمر بينه وبين ربه ، ومرجعها إلى الندم على ما قال ، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي ، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته.
(١) في ج : وتحسن حالته.
(٢) ينظر : «الطبريّ» (٩ / ٢٦٥)