نحو اليمن ، فمد بصره ؛ فإذا بالعرش ، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. وقال قتادة : اسمه بلخيا (١). وقول سليمان ـ عليهالسلام ـ : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) يريد تجربة ميزها ونظرها ، وروت فرقة أن الجنّ أحسّت من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوجها ، فكرهوا ذلك وعيّبوها عنده ، بأنها غير عاقلة ولا مميزة ؛ وأن رجلها كحافر دابة ، فجرّب عقلها وميّزها بتنكير السرير ، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح ، لتكشف عن ساقيها عنده ، وتنكير العرش : تغيير وضعه وستر بعضه. وقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) تحرز فصيح ، وقال الحسن بن الفضل (٢) : شبّهوا عليها فشبّهت عليهم. ولو قالوا : أهذا عرشك؟ لقالت : نعم ، ثم قال سليمان عليهالسلام عند ذلك : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) الآية ، وهذا منه ؛ على جهة تعديد نعم الله تعالى عليه وعلى آبائه.
(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)
وقوله تعالى : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ) أي : عن الإيمان ، وهذا الكلام يحتمل أن يكون من قول سليمان ، أو من قول الله ، إخبارا لمحمد عليهالسلام : قال محمد بن كعب القرظي وغيره : ولمّا وصلت بلقيس أمر سليمان الجنّ فصنعت له صرحا ؛ وهو السطح في الصحن من غير سقف وجعلته مبنيّا كالصّهريج وملىء ماء وبثّ (٣) فيه السمك وطبّقه بالزّجاج الأبيض الشفّاف ، وبهذا جاء صرحا. والصرح أيضا كل بناء عال ، وكل هذا من التصريح ؛ وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمان في وسط الصرح كرسيّا ، فلما وصلته بلقيس ؛ قيل لها : ادخلي إلى النبي ـ عليهالسلام ـ ، فلما رأت الصرح حسبته لجّة وهو معظم الماء ، ففزعت وظنّت أنها قصد بها الغرق ، وتعجّبت من كون كرسيّه على الماء ، ورأت ما هالها ، ولم يكن لها بدّ من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان ساقيها سليمة ممّا قالت الجنّ غير أنّها كثيرة الشعر ، فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان عليهالسلام : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) والممرد : المحكوك المملّس ؛ ومنه الأمرد ، فعند ذلك قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فروي أن
__________________
(١) أخرجه الطبريّ (٩ / ٥٢٣) رقم (٢٦٩٩٣) بلفظ «كان اسمه بليخا» ، وذكره ابن عطية (٤ / ٦١) ، وابن كثير (٣ / ٣٦٤) ، والسيوطي (٥ / ٢٠٥) ، وعزاه لابن جرير عن قتادة.
(٢) ذكره ابن عطية (٤ / ٢٦١)
(٣) في ج : وجعل.