والتسرّي أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من ألا يميلوا ميلا محظورا ، فإنّ من اختار واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا ، ومن تسرّى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل ، أما من اختار عددا من الحرائر ؛ فالميل المحظور متوقّع منه لا محالة.
وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) بألا تكثر عيالكم ، وخطّأه في ذلك الجصاص تبعا للمبرّد (١) ، وزعما أنه لا يقال : عال بمعنى كثرت عياله ، وإنما يقال : أعال يعيل ، ولكنّ صاحب «الكشاف» (٢) ، قال : نقل الكسائي عن فصحاء العرب : عال يعول إذا كثرت عياله ، وممن نقله الأصمعي (٣) والأزهري (٤) ، وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم ، وهو من جلة التابعين ، وقراءة طاووس ألا تعيلوا مؤيدة له ، فلا وجه لتشنيع من شنّع على الإمام جاهلا باللغات والآثار ا ه.
قال الله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))
المراد بالإيتاء : ما يعمّ المناولة والالتزام.
و (الصّدقات) : جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال ، وهي كالصداق بمعنى المهر.
والنّحلة : العطية من غير عوض ، ومن ذلك النّحلة بمعنى الديانة ، لأنها عطية من الله تعالى ، وكذلك النحل لما يعطي من العسل ، والناحل المهزول ، كأنه أعطى لحمه حالا بعد حال بلا عوض ، والمنحول من الشّعر المنسوب لغير قائله ، ومن فسّر النّحلة هنا بالفريضة نظر إلى أنّ هذه العطية مفروضة من الله محتومة ، كما قال تعالى بعد آيات المواريث (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١١].
ذهب ابن عباس إلى أن الخطاب في قوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) للأزواج ، وكان الرجل يتزوّج بلا مهر ، يقول : أرثك وترثينني ، فتقول : نعم ، فأمروا أن يسرعوا إلى إيتاء المهور ، وقيل : الخطاب للأولياء : أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج أيّما ، أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ونزلت : (وَآتُوا النِّساءَ) الآية (٥).
__________________
(١) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي ، إمام العربية والأدب في بغداد توفي سنة (٢٨٦) انظر الأعلام للزركلي (٧ / ١٤٤).
(٢) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للإمام الزمخشري (١ / ٤٦٩).
(٣) عبد الملك بن قريب بن علي توفي سنة (٢١٦ ه) في البصرة ، أحد أئمة اللغة والشعر ، انظر الأعلام للزركلي (٤ / ١٦٢).
(٤) محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أحد أئمة اللغة والأدب توفي (٣٧٠) في خراسان ، انظر الأعلام للزركلي (٥ / ٣١١).
(٥) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٢ / ١١٩).