بطريق النكاح ، ويشهد له أن الظاهر اتحاد المخاطبين في المعطوف والمعطوف عليه في قوله تعالى : (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وعليه يكون الذي خيّر بين الحرة الواحدة والعدد من الإماء هو مالك الإماء لا غير ، ولو كان التخيير واقعا بين أن يتزوج حرّة واحدة ، أو يتزوج من شاء من الإماء اللاتي يملكهنّ لاقتضى ذلك ورود النكاح على ملك اليمين.
وقد قالوا : لا يجوز أن يتزوّج المولى أمته ، ولا المولاة عبدها ، لأنّ للزوجية لوازم تنافي لوازم ملك اليمين ، ألا ترى أنّ من لوازم الزوجية حقّ الإخدام على الزوج لزوجته ، ومن لوازم الملك حق الاستخدام عليها لسيدها ولمن شاء ، ومعلوم أن الإخدام والاستخدام لا يجتمعان ـ وأنه متى تنافت اللوازم تنافت الملزومات ، فلا يجتمع ملك اليمين والزوجية ، والآية هنا جارية في الخطاب على خلاف ما جرت عليه الآية الآتية ، وهي قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النساء : ٢٥] فإن المأمورين بالنكاح هنا غير المخاطبين بملك اليمين.
وذلك ظاهر بشهادة قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ) وقوله بعد : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [النساء : ٢٥] وسيأتي عما قريب إيضاح ذلك إن شاء الله.
وقد حاول الجصاص (١) الاستدلال بقوله تعالى : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) على جواز التزوّج بالأمة مع وجود الطول إلى الحرة ، وسلك بالآية طريقا لم يرتضه جمهور المفسرين.
وذلك أنه يرى أنّ قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) معطوف على كلمة (النِّساءِ) في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وبذلك يكون التخيير واقعا بين أربع حرائر وأربع إماء : بعقد النكاح ، فيوجب ذلك تخييره بين تزوج الحرة والأمة ، وهذا بعيد كل البعد كما ترى.
ويرى أيضا عدم اتحاد المخاطبين في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا) وقوله تعالى : (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) قال : لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير ، كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) إلخ ، وقد علمت ما فيه آنفا.
(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) الإشارة إلى اختيار الواحدة والتسرّي.
(أَدْنى) معناه أقرب. والعول في الأصل الميل المحسوس ، يقال : عال الميزان عولا إذا مال ، ثم نقل إلى الميل المعنوي ، وهو الجور ، يقال عال الحاكم إذا جار ، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل ، المعنى أن ما ذكر من اختيار الواحدة
__________________
(١) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٢ / ١٥٧).