رشد ، وتقدم احتجاجه على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ).
ونزيد على ما تقدّم أن الجصاص وصاحب «الكافي» قالا في الاحتجاج لمذهب الإمام : إنّ الشرط (رشد) نكرة ، فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه ، وأوّل أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا ، وإذا امتدّ الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا ، وحدث ضرب من الرشد لا محالة.
وأنت تعلم أنّه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كان الدفع حينئذ عن إيناس الرشد ـ وهو مذهب الشافعي والصاحبين ـ فلا يصحّ أن يقال : إنّ مذهب الإمام وجوب دفع المال إلى اليتيم بعد الخمس والعشرين سنة ، سواء أونس منه رشد أم لا ، بل يكون الخلاف بين الإمام وغيره في تعيين الرشد الذي اعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا هو؟
وذلك أمر آخر وراء ما نقل عن الإمام في هذه المسألة : على أنه إن أريد بهذا الضرب من الرشد الرشد في مصلحة المال ، فكونه لا بد أن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع ، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو يكاد يكون مصادمة للآية ، لأنها كالصريحة في اشتراط الرشد في ضبط الأموال ورعايتها ، ألا ترى أن الابتلاء المأمور به في أول الآية هو ابتلاؤهم فيما يتعلق بحفظ المال ورعايته ، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا) إلخ فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشدا في رعاية مصالح المال ، لا ضربا من الرشد كيفما كان ، وإلا تفكك النّظم ، وضاع انسجام الكلام.
ومخالف الإمام يقوّي الاستدلال بالآية على مذهبه بالقياس الجلي ، وذلك أن الصبيّ إنما منع منه ماله لفقدان العقل الهادي إلى حفظ المال وكيفية الانتفاع به ، فإذا كان هذا المعنى قائما بالشيخ والشاب كانا في حكم الصبي ، فوجب أن يمنع دفع المال إليهما ما لم يؤنس منهما الرشد.
قال صاحب «روح المعاني» (١) من الحنفية : ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنّع ابن حزم ـ ودأبه التشنيع على الأئمة ـ على أبي حنيفة رضي الله عنه ، مع أنّ من تدبر ما ذهب إليه الإمام علم أن نظره في ذلك دقيق ، لأن اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال ، واعتبر إيمانه وكفره ، وسلّم الله إليه نفسه يتصرف فيها حسب اختياره ، كان منع ماله عنه أشبه شيء بالظلم ، وهذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ فورا ، إلا أنّنا أخّرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ، ورجاء الرشد ؛ والكف عن السفه ، وما فيه من تبذير المال وفساده.
وسنّ البلوغ ثمانية عشر سنة زيد عليها سبع سنوات ، لأنها مدة معتبرة شرعا في
__________________
(١) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، للإمام الألوسي (٤ / ٣٠٧).