اللذين خيّر فيهما عليه الصلاة والسلام ، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف ، كالجلد بدل الرجم ، فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم ، وتغيظوا منه ، وربما يقصدونه بالأذى ، فأخبره الله تعالى بأنه إن رأى الإعراض عنهم فلا بأس عليه ، فإنّهم لا يضرونه بشيء أبدا ، وقدم حال الإعراض للمسارعة إلى أنه لا ضرر عليه فيه ، وإن كان مظنة الغيظ والحقد ، ثم قال : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي جاءت به الشرائع ، أو جاء به الإسلام (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين الذين يحاربون المظالم.
وهاهنا أمور :
الأول : أنّ المحكّم ينفذ حكمه فيما حكّم فيه ، فإنّ اليهود حكّموا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونفذ حكمه فيهم.
الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام ، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود ، أما الآن وقد أكمل الله الدين ، وتقررت الشريعة ، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية ، لا فرق بين المسلمين وغيرهم.
والثالث : قال الإمام الشافعي : التحكيم جائز ، ولكن الحكم غير لازم ، وإنما هو فتوى ، فإن شاء المستفتي عمل بها أو تركها.
قال الله تعالى : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)) قال النيسابوري : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) تعجيب من الله لرسوله صلىاللهعليهوسلم من تحكيمهم لوجوه : منها عدولهم عن حكم كتابهم.
ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا.
ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه ، وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد.
والواو في قوله : (وَعِنْدَهُمُ) للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.
أما قوله : (فِيها حُكْمُ اللهِ) فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ ، خبره (عِنْدَهُمُ).
وإما أن يرتفع خبرا عنها ، والتقدير (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) ناطقة بحكم الله ، فيكون (عِنْدَهُمُ) متعلقا بالخبر.