والطيبات اللذائذ التي تشتهيها النفوس ، ولا تعافها الطباع ، لا شتمالها على ما ينفع ، وتجردها عما يضر.
وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم جلس إلى أصحابه يوما في بيت عثمان بن مظعون يعظهم ، فوصف لهم يوم القيامة ، وبالغ ، وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير ، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ، ويحرّموا على أنفسهم المطاعم الطيبة ، والمشارب اللذيذة ، وأن يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، وأن لا يناموا في فراش النساء ، بل لقد عزم بعضهم على أن يجبّ مذاكيره ، ويلبسوا المسوح ، ويسيحوا في الأرض فوصل خبرهم إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فسألهم فقالوا : ما أردنا إلا خيرا ، فقال لهم : «إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١).
وليس في ذلك شيء من الحض على الاستزادة من أسباب الشهوات ، بل ذلك نهي عن الرهبانية الموصلة إلى هدم الأجسام ، وانحلال القوى ، ومتى انهدمت الأجسام ، وانحلت القوى ، تسرب الخراب والاضمحلال إلى الأمة ، قلا تقوى على العمل.
وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقولهم في مصلحة المجتمع ، وأنّى لهم ذلك وقد انهدمت أجسامهم فضاعت عقولهم. والعقل السليم في الجسم السليم ، ومع ذلك فالله لما نهانا عن تحريم الطيبات نهانا عن الاعتداء ، وقال : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) فهو يأمرنا أن نكون وسطا ، وأن نلتزم التوسط في الأمور.
وقد ذهب المفسرون مذاهب في المراد من قوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) فمنهم من ذهب إلى أن المراد لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال : لا تظهروا باللسان تحريم ما أحل الله.
ومنهم من قال : لا تجتنبوا ما أحل الله اجتنابا يشبه اجتنابكم لما حرم الله.
ومنهم من قال : لا تحرّموا على غيركم بالتقوى ما أحل الله.
ومنهم من قال : لا تحرّموا على أنفسكم بنذر أو يمين ، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].
ومنهم من يرى أن المراد النهي عن أن يغصب شيئا ويخلطه بماله فيحرم ماله ، لعسر تمييزه عن المخلوط به.
وأنت ترى أنه لا مانع من إرادة كل هذه الوجوه من الآية ، فهي تحتملها جميعا ، ولا داعي لتخصيصها بالبعض.
__________________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٧ / ٧).