الاجتناب إلى أعيانهما ، حتى كأنهم مما يفرّ منهما ، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز ، فهل مع هذا كله يعود الناس إليهما ، إن ذلك لحسرة؟! ولقد أردف الله ذلك ببيان المضار التي تنجم من جراء الخمر والميسر ، عسى أن يكون في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع فقال :
(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أي بسبب تعاطيهما ، أما الخمر فإنّها تذهب العقل ، ومتى ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال المجانين ، ولو كان مجنونا لغفر الناس له ما يكون منه من أذى ، فيتأذى الناس منه ويبغضونه لما يلحقهم من شره ، ولا عذر له ، فيغرس في قلوبهم الغل والضغينة ، وما جر عليه ذلك إلا الخمر. وأما الميسر فإنه في حال انشغاله بالقمار يكون فاقد الإحساس والشعور ، لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة ، طمعا في أن ينال أكثر منه ، فإذا رجع خاسرا أكل قلبه الحسد ، وامتلأت نفسه حقدا وحفيظة ، وربما أداه ذلك إلى قتل من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة ، وإن لم تمكنه رجع إلى نفسه بالقتل ، أو بالهم والاكتئاب ، وإن صادفه الحظ وكان رابحا امتلأ قلب صاحبه عليه غلا وضغينة. والحوادث منا في السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد. دع ما يتخذه كل المتقامرين من وسائل خسيسة ، وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم ، وكثيرا ما أودت تلك الوسائل بأصحابها.
(وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) بعد أن بيّن الأضرار التي تعود على المتقامرين والمخمورين في الدنيا بيّن أنّ ضررهما ليس قاصرا على الدنيا فقط ، بل هما ضارّان بالدين أيضا ، فإنّهما يمنعان من الذكر ومن الصلاة ، ومتى منعا من الذكر والصلاة فقد صار الشخص فاجرا ، لا يرقب في الله إلا ولا ذمة ، فهو مستهتر ، لا يبالي ما يرتكب من الآثام ، فماذا يمنعه ، وقد بعد من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) في هذه الجملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية ، وأنّ الأمر من الشدة والهول بحيث لا يمنعه إلا انتظار الجواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حين سمعها ، وقد كان طلب البيان الشافي بعد آية البقرة قولة الخائف الوجل : انتهينا يا رب. ولقد سبق القول في سورة البقرة أن آية الخمر [٢١٩] التي فيها ، كانت أول ما نزل في الخمر ، ثم نزلت آية النساء ، ثم هذه.
وأخرج الربيع أنه لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.