مذهبهم من هذه الأخبار : إنها لبيان الحكم الشرعي ، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة ، وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء.
وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا في التسمية ، والكلام إنما هو في الحكم ، والمسلمون جميعا بحمد الله متفقون في الحكم من حيث الحرمة إلا شيئا يروى عن أبي حنيفة في حل القليل من غير الأصناف الأربعة ، وهو ما لم يبلغ حدّ الإسكار ، وقد نص بعض المتأخرين من الحنفية على أنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها ولا الفتوى ، حتى في خاصة النفس ، وأنّ الحكم أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام.
غير أنّه يتبع الكلام في الحرمة كلام في الأحكام الأخرى كالنجاسة والحدّ ، فمن يرى أنّ هذه الأشياء خمر ، وأنها يشملها اسم الخمر يقول : إنها نجسة بقوله تعالى : (رِجْسٌ) وأنّ فيها الحد الذي ثبت بدليله المعروف في الفقه.
ومن يرى أنها حرام من طريق القياس لإسكارها. هل يرى أنّ النجاسة ووجوب الحد ثبت للخمر للإسكار ومخامرة العقل ، فينقل الحكم ، وهو النجاسة ووجوب الحد ، كما نقل الحرمة بالقياس للإسكار ، أم هو يرى أنّ الذي ثبت بعلة الإسكار إنما هو الحرمة فقط ، فلا يعدي النجاسة ووجوب الحد إلى غير ماء العنب والأشربة المعدودة عنده.
وهل يورث الخلاف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط الحد؟ ذلك يجب الرجوع فيه إلى الفقه وقواعده ، فإنّ ذلك لا ارتباط له بالآية التي معنا.
والميسر : أصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار في توزيعه. وقد بيّن ذلك عند تفسير قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [البقرة : ٢١٩].
وقد روي عن الإمام علي أنّه الشطرنج.
وعن عثمان وجماعة أنّه النرد ، وقال جماعة من أهل العلم : القمار كله من الميسر. ويراد منه : تمليك المال بالمخاطرة ، فكل مخاطرة بالمال قمار ، وهو من الميسر ، وهو حرام.
(رِجْسٌ) أي قذر تعافه العقول. وعن الزجاج : الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح ، وقد يطلق الرجس على النجس.
(مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) من تسويله وتزيينه. (فَاجْتَنِبُوهُ) أي اجتنبوا الرجس (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) راجين الفلاح بهذا الاجتناب.
ولقد شدد الله في الآية الكريمة أمر الخمر والميسر تشديدا يصرف النفوس عنه إلى غير عود ، فصدّرت الجملة (بإنما) وقرنا بالأصنام والأزلام وهما ما هما من الشناعة ، وسميا رجسا من عمل الشيطان ، وذاك غاية القبح ، ثم أمر باجتنابهما ، وأضاف