وقال محمد وهو محكيّ عن الشافعي أيضا : بل الخيار للحكمين ، ومتى حكما بشيء والتزمه القاتل لا يتعداه.
ويريد أبو حنيفة : أن يأخذ من قوله : (هديا) دليلا على أنّ الواجب في الجزاء القيمة ، لأن الهدي لم يعرف إلا فيما تجوز به الضحايا ، وهو الجذع من الضأن ، والثني من غيره ، لأنّ مطلق اسم الهدي ينصرف إليه ، كما في هدي المتعة والقران.
ولمحمد والشافعي أن يقولا : إن اسم الهدي قد يطلق على كل ما يهدى ، وقد تأيّد هذا المعنى عندهما بما روي من أن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة.
وأبو حنيفة يجيب عما ورد من فعل الصحابة : بأنهم إنما أوجبوه طعاما لا هديا ، وأبو حنيفة يجيز أن يكون الإطعام من الصغار التي لا تصلح للضحايا على أنها طعام لا هدي.
هذا وقد دلت الآية الكريمة على أنّه إذا كان الجزاء هديا فلا بدّ أن يبلغ الكعبة ، فيذبح هناك.
قال العلماء : والمراد من الكعبة الحرم ، وإنما خصّت بالذكر للتعظيم ، فلو ذبحه في غير الحرم كان إطعاما. والإطعام كما يكون في الحرم يكون في غيره ، وقد نقل عن الشافعي أنّ الإطعام كذلك اعتبارا بالهدي.
ومحلّ إثبات ذلك أو نفيه في الفقه ، لأنّ الآية لم تقيّد الإطعام بكونه بالغ الكعبة.
(لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) أي شرعنا ما شرعنا من الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره.
والوبال في الأصل الثقل ، ومنه الوابل للمطر الكثير ، والوبيل للطعام الثقيل الذي يعسر هضمه ، والمرعى الوخيم.
والمعنى شرعنا ذلك ليذوق من قتل الصيد ثقل فعله وسوء عاقبته.
(عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) لكم من الصيد وأنتم محرمون ، فلم يجعل فيه إثما ، ولم يوجب فيه جزاء ، ولم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك ، مع أنه ذنب عظيم ، حيث كنتم على شريعة إسماعيل ، وقد كان الصيد فيها محرّما.
(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد ورود النهي فالله ينتقم منه ، وهو العزيز الذي لا يغالب ، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه. والمراد بالانتقام الانتقام في الآخرة.
وأما الكفارة فقد أوجبها الجمهور على العائد ، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل ، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن وابن جبير.