هذا تلخيص ما قالوه ، والمعنى حسن في نفسه إلا أن حمل الكلام عليه بعيد ، لأنّ الجدل في لسان العرب هو الخصومة ، وتخصيصه بالقياس المؤلف من المسلمات اصطلاح منطقي حادث ، ولا يسوغ حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات الحادثة ، ولا يصحّ فهمها إلا مراعى فيها معانيها التي وضعتها لها العرب ، وما أرادوه يصحّ أن يكون داخلا في الحكمة ، فإنّ المراد بها الطريق المحكم في الدعوة ، ولا إحكام في الدعوة إلا إذا خوطب الناس بما يفقهون ، فلا يخاطب العوام بالجدل والبرهان ، ولا كل صنف من الناس إلا بما هو لائق به.
ومن ذلك يعلم أن القائم بالدعوة ينبغي أن يكون على حظّ عظيم من علم النفس وعلم الاجتماع وطبائع الأفراد والأمم ، فإنّه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يناسبها.
ومن الحمق أن يظنّ أن الناس متساوون في القدرة والأفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة من الخطاب ، وكما أن الأمراض مختلفة ، وأدويتها كذلك مختلفة ، وليس دواء واحد نافعا لكل مرض ؛ ولكل مريض ، كذلك أمراض النفوس ، تحتاج إلى علاجات مختلفة ، وتركيبات متباينة ، وربّ دواء أفاد إنسانا ، وأضر بآخر ، وربما أفاده في وقت ، وأضر به في آخر ، ومدار الأمر على معرفة الداعي أنّ الغرض من القول الإفهام والتأثير ، فيسلك لذلك سبله ، وعلى أن يكون عنده عقل مفكر ، ولسان مؤثر ، سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النبي صلىاللهعليهوسلم في الدعوة ، ومقدار نجاح هذا الرفق.
روى أبو أمامة أنّ غلاما شابا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا نبي الله ، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «قرّبوه إذن» فدنا حتى جلس بين يديه ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أتحبه لأمك» قال : لا جعلني الله فداك ، قال : «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك» قال : لا جعلني الله فداك. قال : «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك» قال : لا جعلني الله فداك. قال : «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم» فوضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده على صدره وقال : «اللهم طهّر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصّن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه (١).
وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا في الحق فلا يهن ، صارما في الصدق ، فلا يضعف ، مخلصا فانيا في مبدئه فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها.
والمثل الأعلى في ذلك صاحب الدعوة الإسلامية فقد اعترضوا سبيل الدعوة. بكل أنواع الإيذاء ، وفتنوا المؤمنين. فلم يثن ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن عزمه ، وصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
__________________
(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٢٥٦).