ثم جاءت قريش إلى عمه أبي طالب ، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد ما شاء من مال ويترك ما يدعو إليه ، فذكر أبو طالب للنبي صلىاللهعليهوسلم ذلك فبكى وقال : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه» (١).
قال الله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)) (١٢٦) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون (١٢٧) (عُوقِبْتُمْ بِهِ) أصل العقاب المجازاة على الفعل ، فالفعل ابتداء ليس عقابا ، وإنما سمّاه الله هنا عقابا على طريق المشاكلة (ضَيْقٍ) تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين كالقيل والقول.
لما أمره الله بدعوة الناس إلى الإسلام ، وكان في ضمن الدعوة تسفيه آرائهم ، وإبطال عقائدهم ، وتضليل طرائقهم ، وهذا مما يدعو إلى الحمية والاعتداء على الداعي بأنواع الاعتداء ، وربما حمل ذلك الداعي على مقابلة الشر بأكثر منه ، نهى الله هنا عن مقابلة الشر بأكثر منه ، فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، ثم دعا إلى الصبر ، وعدم مقابلة الشر بمثله ، وحبب فيه فقال : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).
وقد قيل في سبب نزول هذه الآيات : إنّ النبي صلىاللهعليهوسلم لما رأى حمزة وقد مثّل به المشركون ، قال : «والله لأمثّلن بسبعين منهم مكانك» (٢) فنزل جبريل عليهالسلام بخواتيم سورة النحل ، فكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عما أراد ، وتكون سورة النحل مكية إلا هذه الآيات.
وقيل إنّ هذا كان قبل الأمر بالجهاد العام ، حين كان المسلمون لا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ولا يبدؤون بالقتال ، فتكون كقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)).
وحمل الآية على قصة حمزة غير ظاهر لأنّ ذلك يجعل الآيات مفككة لا ارتباط لها ، فالظاهر ما حملنا الآية عليه ، وقريب منه قول مجاهد وابن سيرين : إن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله.
والضمير في قوله : (لَهُوَ) يرجع إلى المصدر في قوله : (صَبَرْتُمْ) والمصدر إما
__________________
(١) السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (١ / ١٧٦ ـ ١٧٧).
(٢) انظر السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (٢ / ٦١٠).