فإذا قلنا : إن فرضيته باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده كانت الأوامر الواردة به في شريعتنا تأكيدا لهذه الفرضية ، وإذا علمت أن نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم قد حجّ حجتين قبل الهجرة ، وحج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة ، علمت أنّ أولى هذه الحجات وقعت عن فريضة الإسلام.
وإن قلنا : إن فرضيته قد نسخت بعد سيدنا إبراهيم ، كان وجوبه علينا ثابتا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] إذ هي الآية الصريحة في هذا الوجوب.
وأما قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] عام الوفود على الراجح ، وهذا العام هو الذي قدم فيه وفد نجران على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصالحهم فيه على الجزية ، ومعلوم أنّ مبدأ مشروعية الجزية كان عام غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، وعلى هذا يكون مبدأ فرضية الحج في السنة التاسعة ، وتكون الحجتان اللتان فعلهما النبي صلىاللهعليهوسلم قبل ذلك نافلتين ، تطوّع بهما على دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ولقائل أن يقول : فلما ذا لم يبادر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأداء الحج في تلك السنة ، وهو أفضل الخلق ، وأسبقهم إلى الخيرات ، وأسرعهم إلى تأدية فرائض الله ، وكيف يرسل أبا بكر ليحج بالناس ، ويؤخر هو حجته إلى السنة التي بعدها؟
والجواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج بالناس كان زمن النسيء ، ولم يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الحقيقي من السنة ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يعلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي ، وينضبط نظام السنين القمرية في السنة العاشرة فتأخر النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى السنة العاشرة كان لحكمة عظيمة ، كي يقع حجّة الذي سيكون منهاجا للناس جميعا في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعيرة ، وليس على أبي بكر ؛ ولا على غيره ؛ ممن كانوا معه من حرج في حجهم في ذلك الوقت ما دام أمر الزمان لم يتقرر بعد.
ونعود إلى التفسير :
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) الأذان والتأذين الإعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا النداء في الناس بأنّ الله قد كتب عليهم الحجّ ، ودعاهم إلى أدائه.
(رِجالاً) جمع راجل ، كقيام جمع قائم ، أي ماشين.
(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الضامر النحيف الهزيل ، والمراد به هنا الهزيل من مشقة السفر (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) يأتين صفة لضامر ، لأنه لما دخلت عليه أداة العموم صيّرته بمعنى ضوامر. والمعنى : وعلى ضوامر يأتين.