منها ، بل ينبغي لهم أن يواسوا الفقراء والبائسين ، وأن يشاركوهم في الأكل منها ، ولا يترفّعوا عليهم ، وأنه يجب عليهم أن يتحلّلوا من قيود الإحرام متى فرغوا من المناسك الواقعة قبل الطواف ، وأنه يجب عليهم أيضا أن يوفوا بما التزموه بالنذر من ذبح وغيره. وأن يطوفوا بالبيت طواف الإفاضة ، أو طواف الوداع على ما قيل.
قد يقال : إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم ، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟
والجواب أن الله سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات ، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة ، والأصقاع المترامية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس (١) قال : لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال : ربّ قد فرغت ، فقال : أذّن في الناس بالحج. قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى : أذّن وعليّ البلاغ. قال : رب كيف أقول ، قال : قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه أهل السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد ، يلبون.
على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض ، فلا تحجزها جبال ، ولا تضعفها بحار ولا قفار ، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها ، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء.
هذا ، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه ، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) هو النبي صلىاللهعليهوسلم ، ويكون المعنى حينئذ : واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم ، وأذن في الناس بالحج ، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم ، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود ، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره.
وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بأن سورة الحج مكية ، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة ، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(١) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٤ / ٣٥٥).