ولكن هذا الردّ ينهار متى علمت أنّ الراجح هو أن سورة الحج مدنية ، ما عدا آية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) وثلاث آيات بعدها ، كما هو مروي عن قتادة ، وفي رواية ، عن ابن عباس أنّ السورة كلها مدنية ، وهو قول الضحاك أيضا.
ما في الآيات من الأسرار :
إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن يأتوا إلى البيت الحرام ، فالسرّ في العدول عن ذلك إلى التعبير بالإتيان إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه هو الداعي ، والقدوة لهم فيما يكون بعد.
وقوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) كلمة (كل) فيه للتكثير لا للإحاطة ، على حد قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] والسر في ذلك إفادة أن الركبان الآتين من الأماكن البعيدة يكونون كثيرين جدا ، حتى كأنّهم يمتطون جميع الضوامر.
(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) نكّرت المنافع لإفادة عظمتها وكثرتها ، أو التنكير فيها للتنويع.
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) اختير هذا الأسلوب مع أنّ الذبح هو المعدود من مناسك الحج ، كالذبح للمتعة والقرآن ، ليفيد أن ذكر الله وحده خالصا من شوائب الشرك هو المقصود الأعظم ، وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك القربة ، والتهوين عليهم في الإنفاق ، وفي قوله تعالى : (فَكُلُوا) إلخ التفات إليهم بالخطاب ، ليؤكّد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح ، فلا يتحرّجوا من ذلك ، وليبعثهم على مشاركة البائسين والفقراء ومواساتهم.
ما في الآيات من الأحكام
: ١ ـ قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج.
٢ ـ استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب ، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس ، فقد أخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وجماعة عنه أنه قال : ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر : أسمع الله تعالى يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) فبدأ بالرجال قبل الركبان.
ولكنّك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية ، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال ، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب ، فإذا كان المشي أفضل ، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن