فقوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) هو كما علمت على تقدير الرضا ، أو ما في معناه ، أي لن ينال رضا الله لحومها ولا دماؤها ، ولكن ينال رضاه التقوى منكم.
وأنت ترى أنّ الآية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان الله ، مع أنه ليس من شأنها أن يقال فيها : تنال أو لا تنال ، ولكن قصد المبالغة في الأخبار بأنّ أصحابها لا ينالون الرضا والثواب بها وحدها إذا لم يكن معها التقوى والإخلاص هو الذي قضى أن يكون نظم الآية على هذا النحو البديع ، كأنه قيل : إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر الله ورحمته صحّ أن يدرك أصحابها بها وحدها شيئا من ذلك ، ففي الآية نوع من التجوز.
وترى أيضا أنه قد أعيد في الآية حديث تسخير الأنعام ، وتذليلها للناس ، لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة يبعث على شكرها والثناء على الله من أجلها ، والقيام له بما يجب لعظمته وكبريائه ، لأنّه تعالى سخر لهم تلك البهائم ، وأخضعها لتصريفهم ، وأراهم ما يصنعون فيها ، وكيف يتقرّبون بها.
ومن هذا تعلم أن (على) في الآية الكريمة للتعليل ، وأنّ (ما) مصدرية ، ويصح أن تكون (ما) نكرة موصوفة ، أو اسما موصولا مع مراعاة أن العائد محذوف ، وفي صرف الخطاب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وأمره بتبشير المحسنين أعمالهم الآتين بها على الوجه المطلوب ، ووعدهم بأنّ لهم من الله الجزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا.
هذا وفي الآية دلالة على أنّ التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل له جلّ شأنه من أهمّ المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها أو التهاون فيها.
قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)) يصحّ أن يكون هذا كلاما متصلا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) وما وقع في البيت ـ من ذكر مناسك الحج وشعائره ، وما فيها من منافع الدنيا والآخرة ـ استطراد لمزيد تعظيم شأن البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا ، وتسجيل قبح صدهم للمسلمين عنه ، وإخراج أهله منه ظلما وعدوانا ، وتفويت هذه المنافع عليهم ، لأنّ الجناية يعظم أمرها بعظم ما يترتب عليها من تفويت المنافع والإيقاع في الأضرار. ولأن خطورة الجناية تدلّ على خطر المجني عليه ، وناهيك بجناية تقع على البيت الحرام ، مع ما له من قداسة وحرمة ، وتفوت على الناس منافع الحج مع ما فيها من خيري الدنيا والآخرة ، ويكون قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) رجوعا إلى موضوع السياق ، لبيان عاقبة هؤلاء الصادّين عن سبيل الله والمسجد الحرام ، من قهرهم ، وخذلانهم ، وكسر شوكتهم ، ونصر المسلمين عليهم ، وإزالة صدهم ، وتمكين المسلمين من البيت بعد تمكينهم منهم