قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها وهم غيّب ، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم.
فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم ، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس ، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم ، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا.
وقد يقال : إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه ، وأنه كان حلالا لهم ، فما معنى نفي الحرج فيه؟
والجواب : أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما ، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم ، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته ، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا : الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء.
وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) على بيوت الزوجات والأولاد.
ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان : وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد ، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله فالمعنى : ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد ، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ.
وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث ، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان ، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام ـ قرب الجامع بينهما ، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري (١) : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر ، فنقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر.
فإن قيل : فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟
قيل : إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد ، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه
__________________
(١) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (٣ / ٢٥٧).